رضوى عاشور وهي على أبواب الثامنة والستين من العمر، لا تزال تركل الحجر الصغير الذي تراه في دروب أيامها، تركله نحو اللاغاية اللهم إلا اللعب وإلا الانشغال عن انشغلات لا تنتهي، أو بالأحرى لا تريدها أن تنتهي مادام في العمر بقية. هكذا تتحدث الروائية والأستاذة الجامعية في فقرة مهمة ضمن سياق مقاطع من سيرتها الذاتية. أو بالأحرى تكشف عن عادة تراودها كلما مشت في الطرقات وصادفت حجراً صغيراً يغريها بأن تركله المرة بعد المرة لتوصيله إلى أبعد نقطة ممكنة. ثم تحلل ذلك المسلك بالقول بأنه ربما يعبّر عن «الرغبة في اللعب غير المتاح».

Ad

والقارئ لسيرة رضوى الذاتية يدرك أنه – حقاً - ليس في حياتها المثقلة بالهمّ الذاتي والجمعي متسع للعب، الذي يبدو أنه غاص في منطقة غائرة من اللاوعي. وذلك حين يرى القارئ أول ما يرى ذلك اللهاث الذي لا يهدأ، وتلك الديناميكية عالية السرعة الممزوجة بنشاط عارم في كل تفاصيل الحياة، ابتداءً من الجامعة وشؤونها وشجونها، مروراً بإحداثيات السياسة والاعتصامات، ثم المتابعات اللجوجة والحميمة لدائرة المحيطين من طلبة وأصدقاء ومعارف وناشطين، انتهاء بالمقربين والأهل وزملاء العمل والكتابة. وهي بين الجميع كأنها دوامة الريح التي تجذب كل ما يقع في دائرة عصفها، بل لكأنها موكَلة بإصلاح العالم وإقامة جدرانه قبل أن تتداعى!

ولعل خير ما يصف هذا النوع من النساء المشغولات بإصلاح العالم رغم هشاشتهن، قولها تصف نفسها: «رضوى بالتكوين والوراثة فيها هشاشة، قلقة، تثقلها المخاوف ووطأة مجريات الحياة، مصابة على ما أظن باكتئاب من نوع ما، اكتئاب مزمن لا تأخذه مأخذ الجد ما دامت قادرة على مغالبته أو تجاهله، تستيقظ في الصباح مرهقة كأنها في نهاية يوم عمل مضنٍ. تظن أنها غير قادرة على مغادرة الفراش والذهاب إلى عملها، ولكنها في نهاية المطاف تقوم وتستعد للخروج إلى العمل وتخرج. تذهب إلى الجامعة، تدرّس، تحتفي بطلابها وزملائها. تبدو مشرقة ومُقبلة. تمنح الأمل كأنما بدأت يومها بقطف ثماره وأودعتها سلتين كبيرتين خرجت بهما لتوزيع ما فيهما على من يطلب ومن لا يطلب».

لك عزيزي القارئ أن تعلم أن التي خرجت توزع ثمار الأمل، كانت قبل أشهر قليلة ترقد أمام مشارط الجراحين مرة تلو مرة، ينشرون الجمجمة حيناً، ويكشطون ورماً خبيثاً مرة أخرى، ويرقعون فروة الرأس بعضلة من الظهر، ويسندون فراغاً آخر بعظمة مأخوذة من قفص الصدر! إلى آخر مسلسل الجراحات (الفنية) التي تعيد النحت والقص واللزق والتركيب! وأنتَ أيها القارئ طوال فصول المحنة لا تقرأ آهة أو تسمع شكوى أو تلمس ضعفاً أو تشمّ رائحة لانكسار أو يأس. بل يخيّل إليك أنك تغوص في كتابة انحازت للظُرف والطرافة، وجعلت من المحنة موضوعاً للتندر ومقاماً لتمرير أقسى التجارب وآلمها بأقل قدر من المرارة، وأكثر قدر من الفهم.

 يظل كتاب (أثقل من رضوى) مجرد مقاطع من سيرة ذاتية، فالكاتبة لم تقل كل شيء حتى الآن. وما جاء في معظم فصول الكتاب حول مشاهد الثورة المصرية أو هموم الجامعة يمكن أن يُدرج ضمن اليوميات أو المذكرات. وحبذا لو خصصت كتاباً آخر عن رحلتها الحياتية، وخاصة علاقتها بالكتابة وبالشاعر مريد البرغوثي زوجها، وحكاية مزيج المصري/ الفلسطيني داخل أسرتها، وأثر ذلك في تشكيل المكوّن النفسي والذائقة الأدبية في إنتاجها. أقول ذلك وأنا أستحضر المتعة الخالصة التي عاينتُها، وأنا أقرأ روايتها (الطنطورية)، التي تعدّ بحق أفضل وأجمل ما كُتب عن سيرة القضية الفلسطينية حتى الآن. وربما تأخذ الدهشة القارئ إلى أبعد مدى، حين يعرف بأن كاتبة الرواية رغم مصريتها الخالصة استطاعت أن تتقمص الواقع الفلسطيني أرضاً وبيئة ومجتمعاً، بل أبدعت حتى في صياغة اللهجة والفلكلور والتاريخ الشعبي للقرى الفلسطينية والإنسان الفلسطيني في الوطن وفي الشتات.

 يبقى لديّ فضول أو تساؤل عن السرّ وراء قلة شهرة كاتبة وروائية متميّزة مثل رضوى عاشور؟! في بلد مثل مصر طالما احتفى بأدبائه وكتّابه؟!