ذات يوم من عام، لا أفضل تحديده حتى لا أكشف شخصية الرجل الذي كان يتولى جهاز الرقابة وقتها، وقع في يدي الملف الرقابي لفيلم «الرسالة» للمخرج الكبير مصطفى العقاد الأميركي الجنسية السوري المولد، واكتشفت أن الملف لا يحتوي على وثيقة واحدة تُشير إلى أن الأزهر الشريف اتخذ قراراً بحظر عرض الفيلم، الذي أنتج في السبعينيات، وأن منعه من العرض في مصر وعدد من الدول العربية لم ينطلق من قرار رسمي، بل وشاية ضد الفيلم أو كذبة روجت لها جهة ما أو شخصية بعينها، وصدقها البعض، فظل الفيلم ممنوعاً من العرض، قرابة 22 سنة، إلى أن تهاوت الكذبة، واخترقت القنوات الفضائية قرار الحظر الوهمي، وهو ما شجع التلفزيون المصري على عرضه... ووصلت {الرسالة}!
تذكرت تلك الواقعة، وأنا أتابع الجدل المحتدم هذه الأيام حول فيلم {نوح}، والمواقف المتباينة بين الرفض القاطع من جانب بعض شيوخ الأزهر لعرضه في مصر، والتأييد الكامل من المثقفين والمبدعين للعرض الجماهيري، وهو الموقف الذي عبرت عنه لجنة السينما التابعة لوزارة الثقافة في اجتماعها، برئاسة المخرج خالد يوسف، ولجنة المسرح التابعة للوزارة نفسها، برئاسة سامح مهران، والبيان المشترك الذي أكد أن الفيلم {لا يمثل إهانة للصحابة والأنبياء}، وأن عرضه يأتي من قبيل الاحترام لمدنية الدولة، ودستورها، وإحدى ثمار حرية الإبداع.أضاف البيان أن الجهات الرقابية هي المخولة، وفقاً للقانون ونصوص الدستور، بالحكم على الأفلام، كذلك استنكر فرض أحد أنواع الوصاية على الفن والإبداع، وجدد التأكيد على أن أحداً في اللجنتين {لا يسعى إلى صدام مع مؤسسة الأزهر الشريف، لكن يربأ بها اتخاذ موقف مضاد لهذه الأفلام التي تهذب سلوك المواطنين}، وانتهى البيان بإعلان اللجنتين تأييد عرض فيلم {نوح}، والتأكيد، مرة أخرى، أن عرضه أو مصادرته أمر يتعلق بالرقابة فحسب. انتهت موقعة فيلم {الرسالة} بانتصار حرية الإبداع، في أعقاب عرض الفيلم عبر القنوات الفضائية، وكان الظن بأن جهة، أيا كانت قداستها، لن تجرؤ على تكرار اتخاذ قرار حظر عرض الأعمال الفنية، بدليل أن السعودية التي كانت سبباً في شن الحرب على فيلم {الرسالة}، ومخرجه، وحالت دون عرضه في أكثر من بلد عربي، هي التي مولت مسلسل {عُمر}، وأسقطت، بشكل نهائي، الفتوى التي تحظر تجسيد الأنبياء والصحابة على الشاشة، كذلك العشرة المبشرين بالجنة، بما يعني أن السعودية نفسها أدركت أن الزمن تغيّر، وأن القبضة القوية للمؤسسات الدينية (الأزهر والكنيسة على حد سواء) على مقاليد الأمور انهارت، وأن السماوات المفتوحة، فضلاً عن الطفرة التكنولوجية في مجال {الميديا}، أسقطت الحواجز {الكهنوتية}، وأصبح بالإمكان رفع الحظر، بل كسر أنواع القمع والمصادرة كافة، بكبسة زر على الـ {ريموت} ! لا يعني هذا القبول، من جانب أحد الأطراف المناصرة لحرية الإبداع، إهانة الأنبياء أو تمرير أي محاولة للتجريح أو التشكيك بالعقائد أو الأديان السماوية، لكنه تحذير من أولئك الذين استمرأوا دفن الرؤوس في الرمال، كالنعام، ورفضوا مجاراة العصر؛ فالإسلام هو الذي أقر الاجتهاد وإعمال الفكر والعقل، وعلماء الدين الإسلامي هم الذين قالوا: {من اجتهد في مسألة ما وكان من الاجتهاد فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر}، واشترطوا أن يُحصر الاجتهاد بالعلماء المؤهلين للاجتهاد. كشفت الموقعة تخاذل الرقابة على المصنفات الفنية عن أداء دورها، ما أدى إلى انتقاد موقفها المائع في القضية، بل اتهمها البعض بأنها السبب في احتدام المعركة، لأن القانون رقم 430 لسنة 1955 يخول لها، وحدها، حق الرقابة على الأعمال المتعلقة بالمصنفات الفنية؛ أي أنها {سيدة قرارها}، وتحويلها، بين حين وآخر، المصنفات الفنية إلى مؤسسة دينية (الأزهر أو الكنيسة) أو مؤسسات سيادية، لاتخاذ القرار بالإنابة عنها، هو نوع من خيانة الأمانة، وتفريط في الواجب المنوط بها القيام به، وتخاذل عن أداء مهمتها على الوجه الأكمل ! هل يمكن القول إن معركة «نوح» اندلعت، بالمصادفة، أم تقف وراءها أياد مشبوهة أو جاهلة في أضعف الإيمان؟ الأمر المؤكد أن قليلاً من الحكمة كان من شأنه التخفيف من غلو الموقعة، ونتائجها، في حال أداء الرقابة دورها، خصوصاً أن ثمة سوابق تفيد بأن ضجة كهذه غالباً ما تحمل مبالغة في التحذير من خطورة الفيلم المحظور على السلم الاجتماعي، والخشية من تفعيل التهديدات المعلنة بإحراق الصالات التي تعرض الفيلم، ثم يتضح أنها «زوبعة في فنجان»، وأن ردود الفعل التي أعقبت العرض جاءت فاترة، وأن الفيلم «مر مرور الكرام»، وهو ما سيتكرر مع «نوح» في حال عرضه!
توابل
{نوح} !
24-03-2014