لغز الإبداع

نشر في 20-03-2014
آخر تحديث 20-03-2014 | 00:01
لا يستطيع المرء أن يتجنب الشعور بعدم الارتياح عندما يتبين له أن إسهام الإبداع التكنولوجي الحديث في النمو الطويل الأجل في مستويات المعيشة، قد يكون أقل كثيراً من مزاعم المتحمسين، ولعل مستويات المعيشة كانت لترتفع إلى مستويات أعلى إذا تم تكريس كل الموهبة الإبداعية لأبحاث أكثر أهمية أو أكثر تطبيقية والتي كانت لتؤدي إلى ظهور منتجات جديدة.
 بروجيكت سنديكيت في أنحاء العالم المختلفة، نشهد قدراً هائلاً من الحماس لذلك النوع من الإبداع التكنولوجي الذي يُرمَز إليه بوادي السليكون، وفي هذه الرؤية تمثل براعة أميركا ميزتها النسبية الحقيقية، والتي يجاهد آخرون محاولين محاكاتها، ولكن الأمر ينطوي على لغز محير: فمن الصعب أن نستكشف من إحصاءات الناتج المحلي الإجمالي الفوائد المترتبة على هذا الإبداع.

ويتماثل ما يحدث اليوم مع تطورات حدثت قبل بضعة عقود من الزمان في وقت مبكر من عصر أجهزة الكمبيوتر الشخصية، ففي عام 1987، أعرب رجل الاقتصاد روبرت سولو- الحائز جائزة نوبل عن عمله الرائد حول النمو- عن أسفه الشديد لأن "المرء يستطيع أن يرى عصر الكمبيوتر في كل مكان باستثناء الإحصاءات الخاصة بالإنتاجية"، وهناك العديد من التفسيرات المحتملة لهذا الأمر.

ولعل الناتج المحلي الإجمالي لا يعبر حقاً عن التحسينات التي طرأت على مستويات المعيشة والمتولدة عن إبداع عصر الكمبيوتر، أو ربما كان هذا الإبداع أقل أهمية مما يتصور المتحمسون المؤمنون به، فكما اتضح، ينطوي كل من المنظورين على بعض الحقيقة.

هل نتذكر كيف كان القطاع المالي قبل بضع سنوات قبيل انهيار "ليمان براذرز" مباشرة يتفاخر بقدرته على الإبداع؟ عندما نعلم أن المؤسسات المالية كانت قادرة على اجتذاب الأفضل والأكثر تألقاً من أنحاء العالم المتفرقة، فإننا ما كنا نتوقع أقل من ذلك، ولكن من خلال فحص الأمر بقدر أعظم من الدقة بات من الواضح أن أغلب هذا الإبداع كان يشمل ابتكار سبل أفضل للاحتيال على الآخرين، والتلاعب بالأسواق من دون الوقوع تحت طائلة القانون (على الأقل لفترة طويلة)، واستغلال قوة السوق.

في هذه الفترة، عندما تدفقت الموارد إلى هذا القطاع "المبدع"، كان نمو الناتج المحلي الإجمالي أقل بشكل ملحوظ عمّا كان عليه من قبل، حتى في أفضل الأوقات لم يؤد إلى زيادة في مستويات المعيشة (باستثناء مستويات معيشة المصرفيين)، بل قادنا في نهاية المطاف إلى الأزمة التي بدأنا نتعافى منها للتو، وكان صافي المساهمة الاجتماعية من كل هذا "الإبداع" سلبياً.

وعلى نحو مماثل، تميزت فقاعة الدوت كوم للأسهم التقنية التي سبقت هذه الفترة بالإبداع، مواقع الإنترنت التي من خلالها كان بوسع المرء أن يطلب طعاماً للكلاب أو المشروبات الخفيفة على شبكة الإنترنت. بيد أن تلك الفترة خلفت على الأقل تركة من محركات البحث الفعّالة وبنية أساسية من الألياف البصرية، ولكن ليس من السهل تقييم الكيفية التي قد يؤثر بها توفير الوقت بفضل التسوق في شبكة الإنترنت أو توفير التكاليف نتيجة لزيادة المنافسة (نظراً لتزايد سهولة مقارنة الأسعار على شبكة الإنترنت) على مستويات المعيشة.

وينطوي هذا الأمر على حقيقتين واضحتين: فأولاً، قد لا تصلح الربحية الناجمة عن إبداع ما كمقياس جيد لإسهامه الصافي في مستويات معيشتنا، ففي اقتصادنا حيث يستحوذ الفائز على كل شيء، فقد ينجح المبدع الذي يصمم موقعاً أفضل على شبكة الإنترنت لشراء طعام الكلاب في اجتذاب كل من يستخدم الإنترنت لطلب طعام الكلاب في أنحاء العالم المختلفة، وهو ما من شأنه أن يحقق أرباحاً هائلة، ولكن في غياب خدمة التوصيل فإن الكثير من هذه الأرباح قد يذهب ببساطة إلى آخرين، وعلى هذا فإن الإسهام الصافي لأي موقع على شبكة الإنترنت في النمو الاقتصادي قد يكون ضئيلاً نسبياً في واقع الأمر.

وعلاوة على ذلك، فإذا أدى أحد الإبداعات، مثل أجهزة الصراف الآلي في مجال الخدمات المصرفية، إلى زيادة البطالة، فلن ينعكس أي من التكاليف الاجتماعية- لا معاناة أولئك الذين يسرحون من العمل ولا زيادة التكاليف المالية المتمثلة بتعويضهم بإعانات البطالة- في ربحية الشركات. وعلى نحو مماثل، لا يعكس قياسنا للناتج المحلي الإجمالي تكاليف زيادة انعدام الأمان الذي قد يشعر به الأفراد في ظل الخطر المتزايد المتمثل بفقدان الوظيفة. وعلى نفس القدر من الأهمية، لا يعكس قياسنا هذا بدقة التحسن الطارئ على الرفاهة الاجتماعية الناتجة عن الإبداع.

في عالم أكثر بساطة، حيث كان الإبداع يعني ببساطة خفض تكاليف إنتاج سيارة على سبيل المثال، كان من السهل تقييم قيمة الإبداع، ولكن عندما يؤثر الإبداع في جودة السيارة فإن المهمة تصبح أكثر صعوبة. ويتجلى هذا بشكل أكثر وضوحاً في مجالات أخرى: فكيف نقيّم بدقة حقيقة مفادها أن احتمالات نجاح جراحات القلب أصبحت نظراً للتقدم الطبي أعلى كثيراً مما كانت عليه في الماضي، وهو ما يعني بالتالي زيادة كبيرة في متوسط العمر المتوقع ونوعية الحياة؟

لكن رغم هذا، لا يستطيع المرء أن يتجنب الشعور بعدم الارتياح عندما يتبين له أن إسهام الإبداع التكنولوجي الحديث في النمو الطويل الأجل في مستويات المعيشة قد يكون أقل كثيراً من مزاعم المتحمسين في نهاية المطاف. إن قدراً كبيراً من الجهود الفكرية كان مكرساً لابتكار سبل أفضل لتعظيم ميزانيات الدعاية والتسويق- استهداف العملاء، خصوصاً الأثرياء الذين قد يشترون المنتجات في واقع الأمر. ولكن لعل مستويات المعيشة كانت سترتفع إلى مستويات أعلى إذا تم تكريس كل هذه الموهبة الإبداعية لأبحاث أكثر أهمية- أو حتى الأبحاث الأكثر تطبيقية التي كانت ستؤدي إلى ظهور منتجات جديدة.

صحيح أن الاتصال بين البشر بشكل أفضل، من خلال "الفيسبوك" أو "تويتر"، أمر بالغ القيمة، ولكن كيف لنا أن نقارن بين هذه الإبداعات وتلك مثل الليزر والترانزيستور وآلة تورينغ ورسم خريطة الجينوم البشري، والتي أدى كل منها إلى فيض من المنتجات التحويلية؟

وبطبيعة الحال، هناك أسباب تدعونا إلى تنفس الصعداء، فرغم أننا قد لا نعرف إلى أي مدى قد تساهم الإبداعات التكنولوجية الحديثة في زيادة رفاهيتنا، فإننا نعرف على الأقل أن تأثيرها، خلافاً لموجة الإبداعات المالية التي اتسم بها اقتصاد ما قبل الأزمة العالمية، كان إيجابياً.

* جوزيف ستيغليتز | Joseph Stiglitz ، حائز جائزة نوبل في علوم الاقتصاد، وأستاذ في جامعة كولومبيا، وكبير خبراء الاقتصاد في معهد روزفلت وأحدث مؤلفاته كتاب "ثمن التفاوت: كيف يعرض المجتمع المنقسم اليوم مستقبلنا للخطر".

«بروجيكت سنديكيت، 2016» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top