كنت أعرف أن والدة "الكوميدي" السوري الشهير المبدع دريد لحام من بلدة مشغرة اللبنانية في البقاع الغربي التي تغزَّل بها "الرحبانيان" بأحلى الكلمات الممزوجة بخيال شاعري محلِّق، والتي خلدتها الفنانة العربية فيروز، التي من الصعب أنْ يجود الزمان بمثلها، بترنيمات مثل خيوط الضوء في بدايات فجر ربيعي جميل:

Ad

يا قمر مشْغرة يابدر وادي التيم

لكنني لم أعرف أنه ينتمي إلى الطائفة الشيعية الكريمة إلا في هذا الزمن الرديء والمريض والمعيب، فقبل الثورة الخمينية، التي كنت من بين من صفقوا لها حتى احمرّت أكفهم على اعتبار أنها أزاحت الشاه السابق وأراحت هذه المنطقة من تطلعاته الإمبراطورية وشروره الفارسية، كنا نعرف أن الإسلام واحدٌ وأن الشيعة هم الجناح الآخر لهذا الدين، وأنه لا خلاف إطلاقاً على حب وتقدير واحترام آل بيت رسول الله، ولا تمييز بين الخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم جميعاً... أبي بكر وعمر وعثمان وعلي بن أبي طالب.

عشت في لبنان سنوات طويلة وعرفت أن أهل الجنوب، ومعهم بعض أهل البقاع وضاحية بيروت الجنوبية "متاولة"، أي من الموالين لعليٍّ بن أبي طالب، رضي الله عنه، وكان هؤلاء من أكثر اللبنانيين التزاماً بعروبتهم وأكثرهم احتضاناً لقضية فلسطين والثورة الفلسطينية، كما أنهم كانوا الأكثر فقراً والأكثر تهميشاً واستضعافاً في لبنان كله من جنوبه حتى شماله ومن غربه حتى شرقه.

وكذلك كنت أعرف أن شيعة العراق هُمْ مُفجِّروا "ثورة العشرين" العظيمة، وأنَّ منتسبي حزب البعث من بينهم يشكلون نسبة ستة وسبعين في المئة من أعضاء هذا الحزب وأنهم قاتلوا الإيرانيين في حرب الثمانية أعوام بدوافع قومية عربية، وأنهم لم يعرفوا آفة التعصب الطائفي إلا بعد الثورة الخمينية التي أصر قادتها على أنْ ينص دستور الجمهورية الإسلامية على أنَّ الدين الإسلامي على المذهب الجعفري الاثني عشري هو دين الدولة الجديدة.

وكذلك أيضاً، كنت أعرف، ولا أزال، أن المذهب الزيدي، نسبة إلى زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، هو من أكثر المذاهب الإسلامية اعتدالاً وأنَّ صاحبه، زيداً، قد أخذ عن أخيه محمد "الباقر" وعن أبي حنيفة النعمان في الوقت ذاته، ولذلك فإنه، قبل أن يستشري هذا المرض الطائفي والمذهبي بعد انتصار الثورة الخمينية، لم تكن هناك أي مشكلة طائفية لا في اليمن ولا في العراق، وبالطبع ولا في لبنان، ولم نكن نعرف أنَّ هناك شيعة في سورية من بينهم دريد لحام، إلا بعدما أوفد الإمام الخميني محمد حسن أختري ليكون سفيراً ووكيلاً له في دمشق وفي لبنان.

هذه اللغة الطائفية المتداولة الآن لم تكن معروفة في هذه المنطقة قبل انتصار الثورة الخمينية التي راهنَّا على أنها ستزيد المسلمين وحدة وأنها ستَجبُّ ما قبلها، ولاسيما احتلال الشاه للجزر الإماراتية وتهديده لمنطقة الخليج وعداءه للعراق ولمصر، والمشكلة هنا تكمن في أنَّ هذه الثورة قد أيقظت التطلعات الإمبراطورية الفارسية، وأنها تعاملت مع الشيعة العرب على أنهم أقليات إيرانية تتبع للولي الفقيه في طهران ولـ"حوزة" قُم، وأن هذه الأقليات تشكل رؤوس جسور للتطلعات التوسعية لإيران في هذه المنطقة.

كنَّا نعرف أن "العلويين" الأكثر عداءً للشيعة على المذهب الجعفري الاثني عشري لأنهم لا يعترفون بـ"المهدي المنتظر" ولا يؤمنون بـ"عودته"، وكنا نعرف أنَّ "الإسماعيليين" قد افترقوا عن الجعفريين الاثني عشريين عند الإمام السادس، وكنا نعرف أيضاً أن "الزيديين" يقفون على مسافة واحدة بين الشيعة وأهل السنة، وكنا نعرف أن المقامات السنية هي مقامات لكل المسلمين وأن المقامات الشيعية هي مقامات إسلامية، ولم نكن نحسُّ أن كربلاء لا تزال تلقي بأوجاعها علينا جميعاً حتى الآن وأنَّ مقام السيدة زينب بنت علي بن أبي طالب في ضواحي دمشق هو لفئة واحدة دون أخرى وأنه يعتبر عند الخمينيين رمزاً لظلم تاريخي قد لحق بالحسينيين من أبناء "بضعة" رسول الله صلوات الله عليه.

إن كل هذا لم نكن نعرفه ولم نكن نحسُّه إلى أنْ أشاعت الصورة الخمينية بتطلعاتها الإمبراطورية الفارسية هذا المرض الخبيث، مرض الطائفية والمذهبية، في هذه المنطقة، وأصبح هناك "حزب الله" وميليشياته وأصبحت هناك كل هذه الفيالق التي دمَّرت الوحدة الوطنية في العراق وفي سورية... وأيضاً في لبنان والبحرين واليمن.. إن هذه هي الحقيقة وهي حقيقة غدت أكثر من مُرَّة بعد كل أنهار الدماء هذه التي تسيل في سورية وفي العراق، وبعد أن أصبح هناك فيلق القدس وفيلق أبوالفضل العباس وأصبح العلويون والزيديون والإسماعيليون شيعة على المذهب الجعفري الاثني عشري.