كان الدكتور محمد حسن عبدالله، أستاذنا الكبير وأحد أهم مؤرخي الحركة الثقافية في الكويت، يقرأ إحدى قصصه القصيرة في أمسية، وبعد أن أنهى قراءته وقف شاب إفريقي يدرس الأدب العربي على يديه ليقول له بكل جرأة: أنت ناقد رائع، أما الكتابة الإبداعية فهي تقلل من قدراتك النقدية ولا تضيف كثيراً لك. لا أستطيع الآن تحديد ملامح الدكتور عبدالله ولكن صوته جاء مازحاً: أنا لي عشرات القصص وعشر مسرحيات كل واحدة أجمل من الثانية. سأعتبره مازحاً فقط لا بأس، ولكن الحوار الذي استعادته ذاكرتي سأضطر إلى قوله لزميلي الناقد الجميل فهد الهندال وأنا أنهي "عتمة الكائن" عمله الإبداعي الأول بعد أربعة كتب نقدية مهمة في النقد المحلي والعربي.

Ad

النقد مدرسة غير منفصلة عن الإبداع، وهو مقدرة خاصة في سبر أغوار النص واكتشاف مداخليه النفسية، وهو ليس بالضرورة مرادفاً للإبداع في ذات الشخص. فهد الهندال ناقد مارس النقد وأبدع فيه وترك لنا مساحة من جهده ننتقده نحن فيها دون أن نتخلى عن فكرة أنه ناقد أصلاً. ونحن نغامر هنا في دخول عالمه الذي يجيده ربما رداً منا على دخوله مضمار القصة التي نرتكب.

ترددت كثيراً في الكتابة عن مجموعة الهندال القاص، ولكن الناقد فيه يمنحني فرصة أن يتفهم انطباعي السريع عن مجموعة لم تنضج كثيراً، وبحاجة إلى إعادة تفكير طويلة. الإسهام الذي يقدمه الهندال ناقداً يتفوق بمراحل على تجربته الإبداعية الأولى دون أن يمنحنا هذا الإسهام المقدرة على التعامل مع النصوص على أنها تجربة أولى، وهي لأحد الأسماء النقدية المهمة في الكويت.

عتمة الكائن ليست تجربة مغايرة في اللغة أو المضمون، وهو ما كنا نتوقعه من رجل خبر الدخول إلى عوالم النص القصصي وبحث طويلاً في تركيباته، ولعلي أقول باختصار انها مجموعة قصصية لم يمنحها كاتبها فرصة التجاوز ولم يعمل بها كناقد أولا. حملت أغلب القصص ثيمة واحدة تقريباً تناولت الشخصية الوظيفية التي تؤمن بأنها أحبطت لأسباب اجتماعية أو تم تسخيرها لهدف اجتماعي أوحد. ربما تعمد الهندال أن يختار عالماً محدوداً لشخصيات متشابهة وتنويعاتها، وفي ما عدا "رحلة الضوء الأخيرة" لم تخرج القصص كثيراً عن هذا المرض المجتمعي الذي لا يعانيه مجتمع دون غيره.

اعتمد الهندال طريقة قد تكون مقنعة ومقبولة في القص، وهو يسير بخط درامي أفقي لم يمنحه تنوعاً لو أنه اكتفى بقصة واحدة دون أن يستخدم نمطية الحالة وتكرارها. وربما أراد أن يضعنا في وحدة موضوعية، إلا أن خروجه عن هذه الوحدة ترك لنا ما يبرر أنه لم يقصد وحدة الموضوع والإخلاص للثيمة الواحدة. وهو أمر اتفق معه، خصوصاً أن الحالة التي يتعامل معها لا تستدعي كل هذا التنويع، وكنت أتمنى أن يعود إلى النصوص أكثر من مرة. حتى في ذلك الخروج جاءت قصة "حاوية سفلى" تحمل مفاجآت غامضة وتنتهي نهاية تقليدية غير منطقية.

ما يؤكد استعجال فهد في النشر هو الأخطاء المطبعية الكثيرة التي لم تسمح له أو لمراجع بعده أن يدقق كثيراً في العمل. على فهد الهندال أن يكون حريصاً كناقد يحمل المشرط نحو الأعمال الإبداعية أن يجريه أولاً على تجربته الأولى، وهو بالتأكيد قادر على ذلك كقدرته على استيعاب محبتنا له كصوت نقدي مهم وجاد.