حين اخترت أن أزور معرض الكتاب الساعة الرابعة عصراً يوم الجمعة الفائت، كنت أظن أنه اختيار صائب كوني أذهب مبكرة جداً وفي يوم عطلة اعتاد الناس على قضائه في البر أو الشاليهات أو التجمعات الأسرية التي لا تنفض إلا قبيل المغرب. وقد كنت أمني النفس بعدم التعرض لازدحام مواقف السيارات، و"عجقة" المرتادين كما يقول إخواننا اللبنانيون. حين وصلت إلى مكان المعرض حوالي الرابعة وبضع دقائق دُهشت من امتلاء مواقف السيارات عن بكرة أبيها "وأمها أيضاً"! فأوقفت سيارتي كيفما كان، بعد جهد جهيد، لأواجه بعدها بأفواج المرتادين من كل الأعمار والفئات، وكانت الدنيا زحمة وزحمة وزحمة!

Ad

يُقال في الكليشيهات الحوارية المتداولة إننا شعب لا يقرأ. فمن هؤلاء إذن؟! ولأي هدف جاؤا يا تُرى؟!! سؤال مفتوح على مصراعيه، لأنني لا أعلم مدى صدق المقولة، وما إذا كانت هناك فرضيات أخرى تفسر هذا التسابق والتزاحم. وهل ما يحدث ظاهرة حقيقية تستوجب إعادة الحسابات؟ أم مجرد شهوة للتسوق ككل متع التسوق الأخرى في مجتمع استهلاكي متلهف على كل ما هو جديد في عالم السلع والمعروضات؟

ويبدو أن أمر التثبّت من المقولات "الجاهزة" لا يقف عند موضوع: "هل نحن شعب يقرأ أم لا؟"، وإنما أيضاً عند كوننا شعبا يكتب ويؤلف بغزارة أيضاً. وما علينا للاستدلال على ذلك إلا زيارة مواقع دور النشر الشبابية بديكوراتها (المودرن) وأغلفتها البراقة، وجماهيرها الغفيرة، لترى بأم عينك الكم الهائل من العناوين لقصص وروايات وصنوف أخرى من الكتابات. ويبدو أن سقف التشجيع للشباب الذي يؤلف ويكتب آخذ في التصاعد ثم التصاعد، حين تتأمل المشروع وأرباحه المتوقعة، خاصة بعد دخول بعض الأسماء المحسوبة على الساحة الأدبية من المخضرمين. وأمام هذا "الكم" الجارف من العناوين بأقلام لاتزال غضة وطرية العود ومندفعة للظهور والبريق، يثور التساؤل حول معيار "الكيف" في هذا الانثيال المريب الذي وضع الجميع في سلة واحدة، وسهّل سبل الشهرة بلا شروط، ورفع شعار: "التأليف للجميع"، تماماً كشعار "القراءة للجميع" سالف التداول.

في الرواق المؤدي إلى قاعة 5 فوجئت بتجمهر كبير من الشباب والشابات حول أحد المؤلفين الشباب الذي علق يافطة كبيرة وراءه تحمل صورة روايته وعنوانها. وقد لاحظت الجهد الذي يبذل للحصول على نسخة موقعة من الكاتب، حين يخرج أحدهم من المعمعة لاهثاً مشعث الثياب وعلى فمه ابتسامة النصر. أثارني المشهد فأقبلت على فتاتين حصلتا تواً على نسخة بعد جهد جهيد ومعركة باسلة، وسألتهما عن الموضوع وسر التجمهر، ثم عن الكتاب والكاتب. وكانت الإجابة أنه ليس لديهما أدنى فكرة عن الكتاب وفحواه ومؤلفه، وإنما هو الفضول وركوب الموجة! ولعل هذا المشهد يذكرنا بذات التجمهر على ما يطرح من جديد الآيفونات والكب كيك والبلوزات المطبوعة والشالات الكشمير، وغيرها من البضائع الاستهلاكية التي لا تغذي غير رغبات التسوق المريض، الذي يُمارس بمتعة وقتية، ثم سرعان ما تُحال المشتروات للإهمال والنسيان.  

شيء جميل أن تنبت بين ظهرانينا مواهب شابة وواعدة، وتلك والله أمنية كل من يحلم بواقع ثقافي صاعد يتأسس على الجهد والاشتغال على الذات. ولكن ما نراه حالياً هو لون من الإسراف في التشجيع الذي ينثال على المبتدئين من الشباب بلا حذر ولا ذمة! والذي غالباً ما يأتي مصحوباً بالترويج لأي محاولة بدائية قاصرة، ومشفوعاً بالتصفيق والتهليل والدفع نحو حفلات التوقيع العلنية، فضلا عن الإعلانات المليئة بالغزل والثناء في وسائل التواصل الاجتماعي!

واسّ الخطورة يكمن في تلك الكلمات المعسولة وغير المسؤولة التي قد تنطلي على الشباب الغض، الذي قد لا يكون مؤهلاً في الأصل لحرفة الكتابة، وإنما لشيء آخر تتفتح خلاله موهبته وقدراته الذاتية. خاصة إذا صدر هذا التشجيع من المخضرمين من الكتاب ومحترفي الأدب، الذين باتوا يتخذون من جموع الشباب مريدين وأتباعاً، والذين نادراً ما نقرأ لهم شيئاً من "الزجر" الرحيم، أو التوجيه الحازم للشباب في مرحلة التأسيس وبناء الذات. ولعله من الظلم بمكان أن نساهم بإرباك الشباب في بداية مشوارهم الحياتي بتلك الأوهام والأحلام غير الحقيقية.

ولا يبقى إلا أن نذكّر بأن ظاهرة وجود الشاعر أو الروائي أو الكاتب المؤثّر في أي أمة أو شعب هي ظاهرة نادرة جداً كما تقتضي ظروف الأمم والشعوب وكما يسجل التاريخ. وليس من الفضيلة بمكان أن يتكدس لدينا في ثبت الببليوغرافيا مئة شاعر وروائي دون مستوى شروط الإبداع، ويكفينا أن نعتز بثلة قليلة ذات صيت وأثر.