تفاجأت مديحة يسري حينما أخبرها حلمي رفلة بمشاعر فوزي، ولم يعد الهروب مجدياً، وبات عليها مواجهة الأمر.

Ad

كررها رفلة قائلا: مردتيش يا مديحة يعني، ممكن تساعدي فوزي حتى لو كانت الإنسانة دي أنت؟

ببطء خرجت الكلمات من بين شفتيها: وحضرتك جبت الكلام ده منين؟ هو اللي قالك ولا ده استنتاجك الشخصي؟

حلمي بثبات: وهي حتفرق؟ أقصد رأيك حيختلف لو كان هو اللي قال لي عن لو كان ده استنتاجي أنا؟

لم تردّ مديحة، التزمت الصمت تماماً، فتابع رفلة قائلا: معقول مش واخدة بالك أن فوزي «مشدود» لك جداً يا مديحة، ورغم أننا أصحاب جداً زي ما أنت عارفة إلا أنه مقليش حاجة.

تابع: بس هو مش محتاج يقول وكل نظرة من عينه أو تعليق، أو... أو... كله بيأكد اللي جواه وأنه فعلا بيحبك، بس أكيد خايف يصارحك لبعدين يخسرك.

مديحة باستنكار: يخسرني؟

تابع رفلة قائلا: أيوا طبعاً خايف يخسرك كصديقة لو فاتحك بحقيقة مشاعره وأنت رفضت، فأكيد مش ممكن يصارحك إلا لما يبقى متأكد تماماً أن طلبه مش حيترفض.

مرة أخرى لجأت مديحة إلى الصمت فقال رفلة: على فكرة هو مطلبش مني أقولك حاجة، أنا بس حبيت أفهمك هو ليه مقدرش يخلص الأغنية رغم أننا عارفين قد إيه فوزي بيحب شغله وملتزم في مواعيده.

في طريق عودتها من الأستوديو لم تخفِ مديحة سعادتها بما قاله رفلة، وكانت حقا تستشعره، لم تتفاجأ بل تأكد لها ما كان مؤكداً، ولم يعد مجدياً تجاهله، لم تنزعج حينما ضبطت نفسها سعيدة بما تأكد لديها، لكنها راحت تسأل نفسها: هل هذه الفرحة مجرد انتصار أنثوي أم لأنها تبادله المشاعر نفسها، هل هي سعيدة لأنها مرغوبة، وثمة من يحبها، أم لأنها وجدت من تتوافق فيه شروط القبول؟

راحت تستعيد كل مواقف وتصرفات فوزي معها، ومنذ التقته للمرة الأولى في فيلم «قبلة في لبنان»، تداعت الذكريات أمام عينيها كأنها شريط سينمائي لم تفلت أياً من تفاصيله، كانت كمن يعيد اكتشاف فوزي وعلاقتها به.

     

 اكتشاف

في صباح اليوم التالي استعدت مديحة للذهاب إلى الأستوديو، كان حلمي قرر تكثيف تصوير ما تبقى من مشاهد إلى حين انتهاء فوزي من تلحين الأغنية لتصويرها، ومن جانبها عقدت العزم على ألا تدفع للتصريح بمشاعر ليست مؤهلة لاستقبالها، خصوصاً أنها لم تتأكد بعد من حقيقة مشاعرها، لذا قررت أن تتأنى لتتبين الخط الفاصل بين الصداقة والحب. باختصار، حرصت على ألا تخاطر بعلاقة مهمة في حياتها وسعيدة بها لأجل علاقة أخرى لم تحسم بعد.

أما فوزي فلم يضيع لحظة يمكن أن يعبر فيها عن مشاعره لمديحة، كان مهموماً بأن تلتقط «إشارته»، وأن تغير موجة التعامل معه من صديق حميم إلى حبيب وشريك حياة في ما تبقى من عمر، خصوصاً أن تصوير فيلم «آه من الرجالة» أوشك على الانتهاء، ومديحة، كما أخبرته، تعاقدت على بطولة فيلم «جوز الأربعة» مع المخرج فطين عبد الوهاب، ما يعني ابتعادها عنه رغماً عنها وعنه، ومن ثم «البعيد عن العين.. بعيد عن القلب»، فيما كانت أقرب إلى «التحفظ» في علاقتها به سواء بينهما أو أمام الناس، حرصت ألا ينفرد بها، ومن دون أن تشعره بأنها تتعمد ذلك، حتى في اللقاءات الجماعية لم تعد تتصرف معه بأريحية كما كان يحدث دوماً، ما دفعه إلى أن يسألها:

فوزي: أنت متغيرة معايا ليه يا مديحة؟

كانت تتجاهل النظر في عينيه: متغيرة إزاي يعني؟ هو أنا صدر مني حاجة ضايقتك لا سمح الله؟

فوزي: لا أنا مقلتش كده، أنا بس حاسك متغيرة في طريقة تعاملك معايا، يعني مش زي الأول.

مديحة: أبداً مفيش حاجة أنا زي ما أنا ومفيش حاجة أتغيرت.

فوزي: لا يا مديحة أنا حاسس غير كده، مثلا بقيتي مش بتقعدي معانا زي الأول، كأنك بتهربي مننا ودايماً بتفضلي تبقي لوحدك.

مديحة في محاولة لأن تبدو مستنكرة لما قاله فوزي: أنت اللي بقيت حساس قوي يا محمد، يمكن بس لأن الوقت بقى ضيق، وأنا عاوزة أركز في حفظ مشاهدي علشان نخلّص الفيلم بسرعة، ما أنت عارف أني ارتبطت بفيلم تاني وحابدأ فيه بمجرد ما انتهي من هنا.

تابعت: مفيش حاجة يا فوزي... إحنا أصحاب وزملاء وحنفضل كده علطول بإذن الله.

فوزي وكأنه يحدث نفسه: أصحاب وزملاء بس؟

ردت مديحة بسرعة: تقصد إيه يا محمد.

فوزي بحسرة: لا أبداً مقصدش حاجة.

تعمدت مديحة أن تغير الموضوع فسألته قائلة: إيه أخبار الغنوة، خلصتها ولا لسه؟

فوزي: قريب بإذن الله، كلها يومين وتكون جاهزة ونسجلها...

ثم تابع: متخافيش مش حأخرك عن فيلمك وحتبدأي التصوير في ميعادك.

خرج فوزي من حجرة مديحة وهو حزين وقلق، لم يطمئن إلى كلماتها معه، بل أكدت هواجسه، وأن ثمة تغيراً في تعاملها معه، راح يسأل نفسه عن سر تغيرها، وهل أقدم على فعل ما تسبب في ذلك، ولماذا تتحفظ في تعاملها معه على وجه الخصوص.

كانت كبرياؤه تمنعه من مفاتحتها بشكل واضح وصريح، تصور أن «التلميح» والمبالغة في الاهتمام بها هما وسيلته للتعبير عن مشاعره تجاهها، لذا صدمته طريقتها وردودها الحادة، كان حزيناً بما يمكن تلمسه، فضحته عيناه وقسمات وجهه، ما دفع صديقه حلمي رفلة إلى أن يسأله عن سر عبوسه.

- مالك يا فوزي؟

فوزي: أبداً متضايق شوية.

حلمي بانزعاج: خير في حاجة حصلت؟

فوزي بحزن: مش عارف مديحة مالها يا حلمي، حاسس أنها متغيرة معايا ومش بتعاملني زي الأول.

حلمي: طيب ما تسألها؟

فوزي: ما أنا عملت كده ولسه جاي من عندها حالا ومخدتش منها عقاد نافع، بل على العكس اتضايقت أكتر.

حلمي: ليه قالت لك إيه؟

فوزي: ما قالتش حاجة.

حلمي: مش فاهم، أمال إيه اللي مزعلك مدام مقالتش حاجة تضايقك؟

فوزي: افهمني... أنا أقصد طريقتها في الكلام، أكدت لي أنه في حاجة مضيقاها من ناحيتي، رغم أنها كانت بتتكلم عادي جداً.

ضحك حلمي قائلا: أنت لخبطتني منين كلمتك عادي ومنين ضايقتك، هو في إيه يا فوزي؟ ما تقول علطول في إيه.

هم فوزي بالانصراف وهو يقول: يوه بقى أنا مش ناقصك يا حلمي.

جذبه حلمي من يده قائلا: طيب خلاص متزعلش... لحظة صمت مرت قبل أن يفاجئه حلمي بقوله: أنت شكلك بتحبها صح؟

لم يرد فوزي، فتابع حلمي قائلا: وعلى فكرة هي كمان حاسة كده وبتهرب أنها تواجهك، مش معقول متكونش واخد بالك؟

فوزي باهتمام: تفتكر فعلا إنها حاسة؟

حلمي بحسم: طبعاً، ومش هي بس، كلنا حاسين ومتأكدين أنك بتحبها.

فوزي متسائلا: أمال ليه حسستني أنها مش فاهمة حاجة؟

حلمي ضاحكاً: أنا متأكد أنها فاهمة وحاسة، وبتحاول تهرب من مواجهتك و...

قاطعه فوزي قائلا: بتهرب من مواجهتي؟ معنى كده أنها مش بتحبني؟

حلمي: أنا مقلتش كده، أنا أؤكد لك أنها فاهمة ومتأكدة أنك بتحبها، وهروبها ده مش معناه أنها مش بتبادلك نفس المشاعر، ممكن تكون عاوزة تتأكد منك، أو من مشاعرها، لاحظ أنك لسه منفصل من كام شهر.

صمت فوزي ولم يعلق وراح يقلب في ذهنه ما قاله حلمي، ارتاح لفكرة رغبتها في التأكد من مشاعرها تجاهه قبل أن تعلن موافقتها.

كان حلمي رفلة قد أجل تصوير أغنية «أنت أنت وبس أنت» إلى آخر يوم تصوير، حتى يمنح فوزي فتره كافية لاستكمالها بعدما عانده الإلهام، وكان جزء منها سيتم تصويره في الأستوديو، فيما الجزء الأكبر سيتم في إحدى الحدائق، ونظراً إلى ضيق الوقت، قرر حلمي تصويرها في حديقة الأستوديو، وبالفعل حُضر المشهد بما يتوافق ورؤيته وما يتوافق وطبيعة الأغنية.

دارت الكاميرا وبدأ فوزي الغناء، وكان حريصاً دوماً أن يصور أغنياته، وهو يغني بصوته فعلا، رغم وجود التسجيل الذي سيُستخدم عند تركيب الفيلم، ليبدو أداؤه مقنعاً للمشاهد، وبالفعل بدأ التصوير، وما إن تحركت مديحة حتى تعثرت قدماها، وقبل أن تسقط، إذا بفوزي يسندها حتى كاد أن يحتضنها، حينها تلاقت عيونهما، فارتعشت يدها في يده، حاولت أن تسحبها إلا أنه قبض عليها بقوة، ترك أصابعه تبوح بالمسكوت عنه وتقول ما عجزت شفتاه عن التصريح به، والأهم ما حاولت إخفاءه مراراً، تأكد أنها تبادله المشاعر ذاتها رغم محاولاتها الهروب منه.

يبدو أنها كانت بحاجة لمثل هذا الموقف لتختبر حقيقة مشاعرها تجاه فوزي، تلك التي حاولت الهروب منها، تأكدت أن سهم كيوبيد أصاب قلبها لا محالة، و{الإنكار} لن يفيدها.

كانت غارقة في أفكارها ومشاعرها ولم تفق منها إلا على صوت رفلة، وبقية أفراد فريق العمل يحيطون بها ليطمئنوا عليها، حينها ترك فوزي يدها وساعدها على الجلوس على أقرب مقعد، اجتهدت أن تتصرف بهدوء خشية أن ينكشف ما في داخلها، رغم أن الجميع من حولها كانوا يجيدون قراءة لغة الأصابع والعيون.

صمت

فور أن انتهت من فيلمها مع فوزي، انشغلت مديحة في تصوير فيلم «جوز الأربعة»، اللقاء الأول الذي جمعها مع كمال الشناوي، والتعاون الثاني بين مديحة والمخرج فطين عبد الوهاب بعد «دموع الفرح» حينما عهدت إليه استكمال الفيلم بعد رحيل بطله أحمد سالم، لذا لم تتردد لحظة في الموافقة على بطولة الفيلم، رغم أن الفنان الشاب كمال الشناوي يشاركها بطولته وكان في بداية مشواره الفني، بالإضافة إلى: لولا صدقي وسميحة توفيق وزينب صدقي.

 يدور الفيلم حول شاب يرتبط بقصة حب مع وفاء حبيبته، وبعد أن يتزوجها تمرض وتصاب بالشلل، وبناء على نصيحة قريباته يتزوج من أخرى لكنها تصاب بالشلل أيضا، فيكرر زواجه للمرة الثالثة والرابعة وفي كل مرة تمرض زوجاته، إلى أن تحدث غارة جوية تتسبب في شفاء زوجاته الأربع، فيدعي الزوج المرض ليكتشف أياً من زوجاته ستقبل العيش إلى جواره، وهو في محنة المرض، فتقرر ثلاث منهن الانفصال عنه، بينما تتمسك زوجته وفاء بالبقاء إلى جواره حتى يتماثل إلى الشفاء.

كان نجاح «زوج الأربعة» سبباً في ترشيح مديحة والشناوي لبطولة فيلم «كيد النسا»، الذي يضم كوكبة من السينمائيين في مقدمهم مخرجه كامل التلمساني، الذي بدأ مسيرته الفنية بعد ترك كلية الطب لشغفه بالفن، فتفرغ لدراسة الرسم والتصوير، ثم تـألق في عالم الفن والكتابة والنقد الفني، وفي عـام 1943 التحـق بأسـتوديـو مصـر، وبـدأ مـشـواره السـينمائي بالعمـل كمساعد في الإخراج والمونتاج والإنتاج، واشترك مع صديقه الفنان أحمد سالم، وعمل معه في أفلامه، سواء في الإخراج أو المونتاج أو الإنتاج، وترك للمكتبة السينمائية تسعة أفلام ليهاجر بعدها إلى لبنان.

كذلك يضم كوكبة من ألمع صانعي السينما قدر لها أن تحمل لواء هذه الصناعة لاحقاً مثل كمال الشيخ، أحد أبرز من أسسوا لفن المونتاج وخصوصاً سعيد الشيخ، فيما تحول إلى الإخراج لاحقاً حتى عُرف في الخمسينيات وأوائل الستينيات بأنه «هيتشكوك مصر» بسبب تأثره بسينما المخرج الأميركي المعروف ألفريد هيتشكوك واهتمامه بالأفلام البوليسية التي تعتمد على الحبكة الدرامية، وتابع شقيقه سعيد الشيخ مشواره مع عالم المونتاج ليضع توقيعه على أبرز أفلام السينما المصرية، كذلك ضم الفيلم وحيد فريد، أحد أبرز مديري التصوير في السينما المصرية، وقد لقب بشيخ المصورين، إذ صور معظم أفلام سيدة الشاشة العربية فاتن حمامة، وأفلام عبد الحليم حافظ.

جسدت مديحة في الفيلم شخصية طفلة يتيمة يتبناها الثري منير منذ طفولتها ويسعى إلى تربيتها بعيداً عن القاهرة، وعندما تصبح فتاة جميلة يرغب في الزواج منها، لكنه يكتشف أنها على علاقة بشاب من عمرها، (كمال الشناوي)، ويحاول الثري إقناعها بالزواج منه لكن عندما يفشل يبارك زواجها ممن تحب.

وأثناء تصوير «كيد النسا» فوجئت مديحة بصديقتها سميحة توفيق تزورها في الأستديو ذات صباح.

مديحة: أهلا سميحة إيه المفاجأة الحلوة دي.

سميحة: أعمل لك إيه ما أنت مش بتسألي عن حد.

مديحة: والله غصب عني يا سموحة، مشغولة على أخري.

سميحة: كان الله في العون، بصي يا سيتي أنا جاية لك في موضوع مهم جدا.

مديحة باهتمام: خير يا حبيبتي فيه إيه؟

البقية في الحلقة المقبلة