«الخلافة» هل تصلح في عصرنا؟!

نشر في 14-07-2014
آخر تحديث 14-07-2014 | 00:01
 د. عبدالحميد الأنصاري شغل "داعش" الناس وأصبح حديث الإعلام والجلّاس، أقام "دولة الخلافة" ونصّب زعيمه أبا بكر البغدادي خليفة للمسلمين، ودعا إلى مبايعته والهجرة إلى دولته، "داعش" يجيد فنّ الدعاية الإعلامية، نظّم حملة لتلميع صورة زعيمه وتسويقه "إماماً" و"خليفة" للمسلمين، وتقمّص البغدادي في أول ظهور علني دور شخصية تاريخية كما في الأفلام والمسلسلات التاريخية، ظهر بلحية رمادية طويلة وارتدى جبّة سوداء، ووضع على رأسه عمامة سوداء، ولولا الساعة العصرية التي ناقضت مظهره لظنّنا أننا أمام خليفة من العهد العباسي بُعث من جديد.

 صعد البغدادي منبر الجامع الكبير بالموصل بـ"وقار" وألقى السلام وجلس، وتسوّك وألقى خطبة الجمعة متحدثاً عن الجهاد لإقامة الشريعة، حاثاً الناس على مبايعته، ومتشبهاً بخطبة الخليفة الراشدي أبي أبكر رضي الله تعالى عنه، ومتمثلاً مقولاته المأثورة "إني وليت عليكم ولست بخيركم، فإن رأيتموني على حق فأعينوني وإن رأيتموني على باطل فسددوني، أطيعوني ما أطعت الله تعالى فيكم"، ثم نزل وأمّ بالمصلين.

 هذا الإخراج السينمائي الدعائي قصد به دغدغة الخيال الجمعي للمسلمين وإثارة حنينهم إلى الماضي الزاهر، ماضي الفتوحات والانتصارات والأمجاد، وما تسمية "البغدادي" باسم الخليفة الأول، وإعلانه الخلافة في الشهر الفضيل شهر الانتصارات، وكذلك انتسابه إلى النسب القرشي الحسيني، وتقمّصه الشخصيات التاريخية وإلقائه الخطبة وإمامته للمصلين– طبقاً لحسين شبكشي: زمن المسخ– إلا رسائل سياسية ودينية قصد بها:

1- إثبات أهليته للخلافة في مواجهة المشككين، فهو من قريش و"الأئمة من قريش"، وهذا يجتذب قطاعاً متديناً يرى الخلافة حكراً في قريش.

 2- وهو من أصل رفيع ونسب شريف، وهذا له تأثيره الفاعل في البيئات العشائرية التي تعتد بقيم الحسب والنسب.

 3- وهو المجاهد الصلب المحرض على قتال الكفار لإعزاز الدين، وهذا له تأثيره الساحر في بيئات "سلفية جهادية" مفتونة بقيم الفتوة والفروسية.

 4- وهو ضد كل مظاهر العصرنة ومفاهيم الحياة وقيم التقدم، وهذا يجتذب جماعات واسعة لا تستطيع الانسجام مع مظاهر الحياة الحديثة.

 وطبقاً ليوسف الديني، الكاتب السعودي، فإن اختيار "داعش" لكل رمزيات العصر الأول من الألوان إلى الأزياء إلى مسميات الخدمات والوزارات والمدارس، يعني أن قوة "داعش" تكمن في تمددها "الفكري" يضاف إلى ذلك: توظيف "الإعلام الدعائي" كقوة جذب لمؤيدين على شبكات التواصل الاجتماعي واستقطاب المزيد من الجهاديين المتحمسين– وزير الداخلية التونسي كشف عن وجود ألفي شاب تونسي مع داعش– فـ"داعش" يراهن على "السلاح الإعلامي" لكسب المزيد من المقاتلين دعماً لدولة الخلافة.

 لكن التساؤل: هل تملك "دولة الخلافة" مقومات البقاء؟ يملك "داعش" اليوم السلاح الاقتصادي، كحقول النفط في الرقة ودير الزور ومغانم أخرى، ويبيع النفط في السوق السوداء بسعر 10.18 دولارات للبرميل، ويحكم مناطق واسعة تقدر بـ5 أضعاف لبنان، ويبلغ عدد مقاتليه 15 ألف مقاتل، كما تحظى دولة الخلافة بدعم "دواعش" محلية في معظم الدول العربية، ولكن مع كل ذلك فإن المحللين يرون أنه لا مستقبل للخلافة الداعشية، لأنها لا تملك مقومات البقاء.

 غسان الإمام يرى أن الخلافة الداعشية سوف تبقى مجرد دولة افتراضية، بلا حدود، بلا سيادة، بلا اعتراف دولي، ويعدد د.عبدالمنعم سعيد عوامل انهيار دولة داعش في:

 1- أنها دولة محاصرة من جميع الاتجاهات، ومحاربة من كل الرافضين للإرهاب في المنطقة.

 2- تنظيم "داعش" يحمل إخفاقه بين طياته، إذ لم يحدث من قبل ولا من بعد، أن نجحت هذه الجماعات في الحكم.

 3- هناك فارق بين الحروب الإرهابية القائمة على الترويع وبث الذعر ونشر القتل وتشويه الجثث، والحروب النظامية التي ما إن تبدأ حتى تجد هذه الجماعات نفسها، منكشفة أمام الضربات الجوية.

 4- إنها جميعاً بلا برنامج اقتصادي أو اجتماعي أو ثقافي للتطور والتنمية، وفضلاً عن ذلك: فإن معظم الرموز الدينية في الساحة أصدروا تصريحات وفتاوى ببطلان شرعية "الخلافة" على يد "داعش"، وإن تمنوها "على منهاج النبوة" اليوم لا غداً.

 أود أن أضيف إلى ما سبق سبباً أقوى هو أن "الخلافة" نظام يصادم "منطق العصر وروحه" ترفضه الشعوب العربية والإسلامية، لأنه يلغي إرادتها ويصادر حريتها لحساب إرادة فرد واحد "الخليفة" الذي لا معقب عليه، يحكم المسلمين حكماً مطلقاً باسم "الخلافة"، وهي كما عرفت تاريخياً نمط من الحكم يجمع فيه الخليفة كل السلطات، ويعد نفسه خليفة للمسلمين، ويعتمد "الرابطة الدينية" بديلة عن "الرابطة الوطنية"، ولا يعترف بالحدود بين الأوطان ولا بسيادة الدول.

 وباستثناء فترة الراشدين وعمر بن عبدالعزيز، فإن الخلافة عبر ألف عام كانت تجربة مريرة، لم يجنِ المسلمون منها إلا الفرقة والجهل والصراعات الدموية، وكانت نظاماً قهرياً بعيداً عن قواعد العدل والمساواة والحرية والشورى والمسؤولية، همش فيه دور الشعوب التي استبعدت عن أي مشاركة سياسية عامة، بل كان ينظر إلى أهل "الرأي العام الشعبي" باعتبارهم "الدهماء" و"الرعاع" و"السوقة" الذين إذا اجتمعوا ضروا، كالجراد المخرب، ولم تكن الخلافة في يوم، رمزاً لوحدة المسلمين ولا عاصمة من فرقتهم بل كانت عاملاً في تقسيمهم إلى "دويلات" متناحرة، ووجدت (3) خلافات متصارعة في وقت واحد "العباسية" في بغداد و"الفاطمية" في مصر و"الأموية" في الأندلس.

 يقول المؤرخ د.حسين مؤنس في تاريخ الخلافة: إنه ظلمات بعضها فوق بعض، وإذا كان المسلمون ارتضوا الخلافة قديماً، فذلك بحسب منطق عصرهم، المنطق الإمبراطوري "الحكم الكسروي" و"الحكم القيصري"، فكان من الطبيعي أن يتأثر المسلمون ويتخذوا نظاماً مشابهاً لهما باسم "الخلافة" لذلك: على "الحالمين" بدولة الخلافة أن يفيقوا ويستوعبوا "منطق العصر وروحه"، فشعوبنا التي أسقطت حكم المستبدين لن ترضى بالعودة إلى الوراء ولن تقبل هذا اللؤم من حكم القهر والطغيان والإذلال.

* كاتب قطري

back to top