عشية الاستفتاء على الدستور المصري الجديد، أذاعت قنوات فضائية عديدة شريطاً ترويجياً للمخرجة المبدعة ساندرا نشأت؛ وهو الشريط الذي سعى إلى استقصاء آراء مصريين في محافظات مختلفة، عبر إيقاع رشيق وجذاب، راعت خلاله المخرجة أن تستهل زيارة أي محافظة بمقطع من أغنية لأحد أبنائها المعروفين.

Ad

على أي حال، فقد أعادت المخرجة نشأت مقطعاًً من أغنية لمطرب شعبي راحل اسمه محمد طه، إلى الحياة من جديد، حين وصلت إلى المحافظة التي ينتمي إليها هذا المطرب، الذي ربما لا تعرفه الأجيال الجديدة ولم تسمع عنه. المقطع يقول ببساطة وتلقائية وإحساس فطري رائع: "مصر جميلة... مصر جميلة... خليك فاكر مصر جميلة".

لم يكد قطاع مؤثر من المصريين يسمع هذا المقطع حتى راح يردده ويسمعه ويستعيده مرات ومرات. القنوات الفضائية، والإذاعات راحت تبحث عن الأغنية وتذيعها، وبعض شركات الهواتف المحمولة باتت تعرضها كـ"نغمة هاتف" مدفوعة الثمن. ويمكن القول في هذا الصدد إن صورة المطرب محمد طه أعيد إنتاجها مرة أخرى في أجواء جديدة تماماً عن تلك التي عاش في ظلها وأنتج وأبدع.

ثمة اشتياق مصري طاغ إلى ماض محدد في اللحظات الراهنة. صورة الرئيس الراحل جمال عبدالناصر هي أكثر صورة رُفعت على مدى السنوات الثلاث الماضية في هذا الحراك الكبير الذي شهدته مصر؛ وهو أمر سيمكن أن نرحب به أو نعارضه ونشجبه، وسيمكن أيضاً أن نخضعه لتحليل عميق، من زوايا عدة، لكن لن يمكننا أبداً أن نتجاهل دلالته، وقبلها بالطبع وجوده.

أكثر الشعراء الذين تم استدعاؤهم إلى الحالة الثورية المصرية على مدى السنوات الثلاث الماضية لم يكن شاعراً شاباً من جيل ثورة 25 يناير، ولكنه كان الشاعر الكبير عبدالرحمن الأبنودي، الذي طالما نظم شعراً على هامش ثورة يوليو.

سنكون في حاجة لتحليل الأسباب التي أدت إلى وجود مثل ذلك الشعور بالحنين إلى ماض محدد، في وقت تكتب فيه مصر تاريخاً جديداً، لكن في هذا المقال سنحاول أن نتعرف إلى الأسباب التي أدت إلى عدم مواكبة الإبداع الأدبي والفني للثورة والاكتفاء باجترار إبداعات قديمة.

كنت من بين الذين عولوا كثيراً على اختراق يحققه "فن الغرافيتي" في مصر في أعقاب ثورة يناير، حيث بدأت ملامح هذا الفن بالبروز والانتشار واكتساب الطابع والأسلوب المميزين، لكن سرعان ما حدث شيء غريب... فقد زاد عدد "الغرافيتي" على الجدران في محافظات البلاد المختلفة، لكن الرسالة لم تخرج عن نصين محددين: "سيسي قاتل"، أو "ارحل يا خروف".

تطور بشع ومزر لفن كان يمكن أن يصبح تعبيراً عن الحالة الإبداعية لثورة فجرها الشباب.

إضافة إلى الحنين الجارف الذي ظهر لدى قطاعات مؤثرة من المصريين للماضي، ولما يمثله جمال عبدالناصر تحديداً، وللفن الذي واكب تجربته، كان الاستقطاب الحاد سبباً في تردي الحالة الإبداعية، واندحارها، أو عدم امتلاكها النضج الكافي والقدرة على الاستدامة.

يلقي الاستقطاب السياسي الحاد بظلال قاتمة على المشهد الإبداعي؛ فيحول الإبداع إلى وظيفة لنصرة موقف أو طرف سياسي، ولا يحاكمه إلا من خلال قدرته على الاصطفاف "مع أو ضد".

حدث هذا مع باسم يوسف على سبيل المثال؛ إذ وجد هؤلاء الذين طالما تغنوا بقدراته الإبداعية أن الأفضل له ولهم أن يكف عن العمل، طالما أنه يمكن أن يترك الخندق الذي يتمترسون فيه أو يذهب إلى جانب آخر.

لكن ثمة سبب ثالث يمكن أن يفسر الفقر الإبداعي في مواكبة تحول سياسي كبير مثل الذي شهدته مصر اعتباراً من 25 يناير 2011؛ إنها حالة التلقي نفسها.

إن حالة التلقي جزء أساسي من حالة الإبداع، وتلك الأولى باتت في أسوأ الحالات. يشكل الشباب النسبة الكبرى من سكان الشعب المصري، ونسبة الأمية بينهم هي الأقل بين كل الشرائح، وعدد مؤثر منهم يمتلك صلة إلى الإنترنت وهواتف ذكية. لكن طريقتهم في التعرض للإبداع باتت مختلفة عن تلك التي سادت في العقود الفائتة. يفضل قطاع كبير من هؤلاء الشباب الجمل الحادة والمختزلة والقصيرة، ولا يميلون إلى كتابة النصوص الطويلة أو قراءتها، كما أنهم يعولون على التناقضات الصارخة، والأفكار الواضحة المباشرة، ويفضلون التمترس في خندق عن التحليل الموضوعي لظاهرة ما، كما أنهم مشغولون بتصنيف المبدعين سياسياً بأكثر من انشغالهم بما يبدعونه.

أما السبب الرابع في ضعف مواكبة الحالة الإبداعية للتغيير السياسي الحاد في مصر، فيكمن في أن هذا التغيير لم يستقر بعد، ولا يزال في حال سيولة دائمة، تجعل من الصعب جداً الحكم عليه سياسياً وثقافياً وحتى أخلاقياً واجتماعياً.

في فترة زمنية محدودة نسبياً تحول مصريون من فكرة إجهاض التوريث، إلى إصلاح نظام مبارك، وصولاً إلى إسقاطه، قبل أن يأملوا في "دولة ديمقراطية حداثية"، تليق بثورة "مجيدة مبهرة"، وهي الثورة التي واجهوا بعدها حكماً فاشياً دينياً خائباً ومستبداً، قاموا لاحقاً بإطاحته بكلفة عالية من الدماء والسلم الأهلي، قبل أن يعودوا إلى "مفهوم الأمن والاستقرار"، ويضطروا إلى المقارنة بين "احتمالات العسكرة"، في مقابل "مخاطر انهيار الدولة".

على هامش تلك التحولات الحادة، كان قطاع كبير من المصريين يُسحق بسبب الانشغالات الحياتية البسيطة، فقد أدى احتدام الصراع السياسي، والشلل الاقتصادي الذي عانته البلاد، إلى تفاقم الفقر، وتردي الأوضاع الاقتصادية التي لم تكن جيدة على الإطلاق قبل اندلاع الحراك السياسي، بل كانت أحد أسباب الشعور العارم بالغضب لدى القطاع الأكبر من المواطنين.

ويتمثل السبب الخامس وراء قصور الحالة الإبداعية عن مواكبة التطور السياسي، بأن هذا التطور لم يؤد إلى شكل من أشكال التغيير الاجتماعي.

ما زالت البنية الاجتماعية المصرية على النحو الذي كانت عليه تحت حكم مبارك. ينسحب هذا أيضاً على بنى الثقافة والتعليم والتنشئة، كما ينسحب على علاقات الإنتاج.

لم يطرأ أي تغيير على الطريقة التي يمارس بها المصريون شؤونهم، إلا في ما يتصل بالعلاقة مع السلطة من جانب، واتساع الميل إلى متابعة الشأن السياسي والتعليق عليه من جانب آخر.

الروايات والأشعار الخالدة التي شكلت حالات إبداعية فريدة في تاريخ الشعوب كانت تأتي عادة في أعقاب تحولات اجتماعية كبيرة مستندة إلى تغيرات سياسية واقتصادية عميقة، وهي مسألة لم تحدث في مصر إلى الآن.

ثمة سبب أخير يجب ذكره في هذا الصدد؛ ذلك أن الممارسة السياسية والاجتماعية التي ترد ضمن الحراك السياسي المصري منذ 25 يناير 2011، راحت تنحدر إلى الواقع المأزوم باطراد، وتبتعد عن الإبداع الذي تميزت به عند اندلاع الثورة في أيامها الثمانية عشرة المبهرة.

لهذا يجب ألا ينزعج المصريون كثيراً إذا شاهدوا مسلسلات انتهازية تحاول أن تعرج على الثورة بشكل مشوه ومبتسر، أو أفلاماً سينمائية تطلب من كتابها تعديل النهاية لـ"إضافة مشهد لميدان التحرير"، أو قرؤوا روايات وأشعاراً سُلقت على عجل، أو استمعوا إلى أغان زاعقة وشديدة المباشرة مثل "تسلم الأيادي".

لن يكون هناك إبداع في الفن والأدب إلا إذا كان هناك قدر مناسب من الإبداع في الممارسة الثورية... هكذا كان تاريخ الإبداع في مواكبة الثورات.

* كاتب مصري