في مقال سابق بعنوان "هيئة مكافحة الفساد... الشيطان في التفاصيل" أبدينا تخوفاً مشروعاً من أن تكون هيئة مكافحة الفساد المزمع إنشاؤها آنذاك (سبتمبر 2011)، مجرد جهاز حكومي شكلي فارغ المضمون شبيه بأجهزة "مكافحة الفساد" الصورية الموجودة في الدول غير الديمقراطية التي لا دور لها سوى إضفاء مشروعية مزيفة على أعمال الحكومة وكبار المتنفذين في الدولة.

Ad

على أي حال لم يتمكن مجلس فبراير 2012 من مناقشة مشروع القانون المقدم من الحكومة، حيث أبطلته المحكمة الدستورية بعد بضعة أشهر في الوقت الذي كان المشروع مدرجاً على جدول أعماله.

وبتاريخ 19 فبراير 2012 صدر فجأة قانون "هيئة مكافحة الفساد" بصفة الاستعجال عن طريق مرسوم ضرورة، أي أنه صدر كما تريده الحكومة على الرغم من بعض الملاحظات الجوهرية عليه، لا سيما تبعية "الهيئة" للحكومة (وزير العدل)، حيث تقوم بتعيين مجلس إدارتها ودفع مرتباته، فكيف ستكافح "هيئة الحكومة" فساد الحكومة؟!

لقد ولدت "الهيئة" ميتة، مع الأسف الشديد، فتبعيتها التنظيمية للحكومة تتعارض مع استقلاليتها المطلوبة، لهذا فلا غرابة البتة أنه قد مضى أكثر من عام على إنشائها ولم تعمل بشكل فعلي، ولم نرَ لها أي دور ملموس وجاد في عملية مكافحة الفساد الذي ازدادت شراسته في الفترة الأخيرة، وهو الأمر الذي يجعل السؤال حول مدى وجود حالة الضرورة في مرسوم إنشاء "الهيئة" سؤالاً مشروعاً!

ومن الناحية التنظيمية، فإن إنشاء جهاز مستقل لمكافحة الفساد وطريقة عمله لا يحتاج إلى إعادة اختراع العجلة، كما يقال، فهناك تجارب عالمية كثيرة توضح كيفية الحد من الفساد ومحاصرته من جهة ونوعية الأجهزة المستقلة اللازمة لذلك وطريقة تشكيلها وارتباطها التنظيمي بأجهزة الدولة المختلفة من الجهة الأخرى.

أما من الناحية العملية، فإنه لا يمكن مكافحة الفساد بأشكاله وأنواعه كافة، والحد من آثاره المدمرة على المجتمع ما دامت المنظومة السياسية فاسدة، حيث إن الفساد السياسي المؤسسي هو أساس البلاء ومصدره، لهذا فإن تجارب البشرية تؤكد لنا أن أي جهود حقيقية وجادة لمكافحة الفساد يجب أن تُركّز أولاً على إصلاح المنظومة السياسية المسؤولة عن إدارة شؤون الدولة والمجتمع، لأن الإدارة الفاسدة لا ينتج عنها سوى الفساد.