بفضل الفضاء الإلكتروني أصبحت الكتابة شأناً مبذولاً وعاماً كالماء والهواء، رحم الله أيام زمان حين كان المكان الأوحد لممارسة الكتابة هو الصحف اليومية والمجلات، وحين كانت الكتابة حكراً على حفنة من الناس ينتقيهم رؤساء التحرير انتقاءً قاسياً وعسيراً، لتزهو صحيفتهم أو مجلتهم بخلاصة الخلاصة من العقول والمواهب. لذلك لا ينجح غالباً في تسلق أعمدة الصحف والاستقرار في رفاهها إلا نجوم الكتابة ومشاهيرها، وغالباً لا يتعدون الاثنين أو الثلاثة في كل صحيفة.
الآن ومع استشراء موجة الكتابة، بدت الأعمدة الصحافية والزوايا مكتظة اكتظاظاً فاحشاً بكل أنواع وألوان ومستويات الكتابة، حتى غدت مقالات الرأي هي المادة الأضخم في الصحف اليومية، وغدا شعار (عمود لكل مواطن) هو التعبير الأمثل لهذه الحالة الغريبة. وإذا أضفنا إلى ذلك ما يجود به الفضاء الالكتروني من (بلوقات) ومواقع إلكترونية شخصية، ومساحات تعبيرية في فيسبوك والتويتر والانستغرام أمكن لنا أن نتصور مدى الانفجار الكتابي الذي نعايشه حالياً، ومدى الارتباك الذي نعانيه لمواكبة هذا الزخم بشتى أطيافه ومستوياته، وغثّه وسمينه.إذا استبعدنا الشعر والرواية اللذين يحتاجان إلى تفرغ وهدأة وانقطاع، يمكن أن نعتبر (المقالة) هي الزاد اليومي الاستهلاكي للفرد. ويبدو أن الفرد منّا قد تمرّن ذوقه على البضاعة المعروضة في سوق المقالات، ولم تعد القواعد الفنية التي اشترطها الضالعون في علم الكتابة تعني أحداً من الكتّاب أو القرّاء. وبتنا نرى أن كل شيء بات يصلح مادةً للكتابة، وكل خاطرة وفكرة يمكن أن تندغم بنقيضها أو تمتاح من نبع جارتها بلا حرج أو تردد. ويبدو أن الأمر قد اختلط أيضاً على الفنيين المشتغلين بإخراج الصفحات وتنسيقها، فأخذوا يدرجون المقال الاجتماعي ضمن الرأي السياسي، والسينما مع الطهي، والمقال الثقافي تحت قائمة (توابل)!معظم المقالات قد تتحدد قيمتها بزمن نشرها، كونها تواكب الحدث السياسي أو الاجتماعي أو الثقافي، الأمر الذي يجعلها جهداً مؤقتاً وغير قابل لإعادة النشر، اللهم إلا في الإرشيف الإلكتروني. ولكن بعض أصحاب الطموح يقومون بجمع مقالاتهم ونشرها في كتاب، معوّلين – ربما – على ضعف ذاكرة القارئ، أو على مكانتهم الاعتبارية في نفسه، أو على أهمية ما يكتبون وصلاحه لكل زمان. وقد يكونون محقين فيما ذهبوا إليه. بين يديّ نموذجين من كتب المقالات، الأول لإبراهيم أصلان بعنوان: (شيء من هذا القبيل)، والثاني لبدرية البشر بعنوان: (تزوّجْ سعودية). وأعتقد أن مادتهما يمكن أن تتجاوز زمن كتابتها إلى ما بعده، معزِّزة بألق ما.سرّ الألق في مقالات بدرية البشر يكمن في ذلك السجال المتجدد والدائم حول قضايا الإنسان السعودي، وعلوقه في أنشوطة المحافظة، وارتهانه للشخصية النمطية المتوارثة في حياته ومعاشه. إن مجرد المحاولة لتحريك المياه الراكدة في هذا المجال يبدو تحدياً شجاعاً تتحمّل الكاتبة تبعاته، وترضى بها. بل تتسع دائرة النبش في عشّ الدبابير حين يتعلق الأمر بقضايا المرأة السعودية، ووضعها الاجتماعي والإنساني، وانحباسها في دائرة الأنوثة المهيضة بالمفهوم التقليدي المجحف. ولعل ما قلل من حساسية هذا التناول للنقد الاجتماعي ما ران على أسلوب الكاتبة من حسّ ساخر وطرافة متهكّمة وظرف. وهذه الكتابة الساخرة تكاد تكون نادرة لدى الأقلام النسائية، وهي لدى بدرية البشر كانت عاملاً مساعداً لتمرير التبكيت بما يشبه التنكيت.أما (شيء من هذا القبيل) لإبراهيم أصلان ففي مقالاته تلميحات حول سيرته الذاتية، وحول مصادفاته اليومية، وعلاقته القلبية بنجيب محفوظ، مع بعض مشاهداته وآرائه. يورد ذلك بصوت خفيض، وتواضع، وبساطة تجعلك تراجع ما تقرأه من الصياغات الأسلوبية والنهايات المبتسرة، لتتساءل ما إذا كانت لأديب أو لطفل في المرحلة الإعدادية!
توابل
الزاد اليومي
29-04-2014