{أوضة الفيران}
على مر العصور والأزمان ظلت عبارة «أوضة الفيران» مرادف الخوف الذي يبثه الآباء في قلوب الأبناء، وبطاقة الإرهاب التي يتم التلويح بها في وجوههم، والمصير المخيف الذي ينتظرهم، في حال لم يمتثلوا للأوامر والفرمانات. لكنني لا أعرف إن كان للاصطلاح وجود في الذهنية الغربية أم أنه مقصور على الموروث الشعبي المصري. على أي حال، خرج الاصطلاح إلى النور مع عرض فيلم يحمل العنوان نفسه في الدورة العاشرة لمهرجان دبي السينمائي. لكن الفيلم الذي شارك في إخراجه ستة مخرجين شباب هم: أحمد مجدي، محمد الحديدي، محمد زيدان، ميّ زايد، نرمين سالم وهند بكر، اتخذ من العنوان فرصة للحديث عن الخوف الذي يجثم على الصدور، والقلق الذي يعشش في النفوس، من خلال ست قصص لست شخصيات لم تلتق بعضها البعض، رغم كونها تعيش في مدينة واحدة هي الإسكندرية.
في «أوضة الفيران» (85 دقيقة/ 2013) نلتقي الشاب عمرو، الذي يدفعه مرض والده العضال إلى الاقتراب منه، بعد فترة طويلة من الجفاء، بينما موسى يغادر الكهف الذي عاش فيه، ويكتشف أنه عاجز عن العبور إلى الجانب الآخر من الطريق، فيما تعزل راوية نفسها، عقب وفاة زوجها، وتكتفي برفقة الليل الموحش، وتعاني داليا قلقاً شديداً يوم زفافها خشية ألا تقف وزوج المستقبل على أرضية واحدة. أما الفتاة مها فتخشى أن يتسبب قرار مغادرتها الوطن إلى تغيير في شخصيتها، بينما تنجذب الطفلة الصغيرة إلى عالم جدتها، وتشعر بصدمة عندما تعاني سكرات الموت. فيلم يفيض بالمشاعر والصدق والدفء، بما يدفع المتلقي إلى الإحساس بأنه يعرف هؤلاء البشر، ويتعاطف معهم وكأنهم جزء من عائلته، وجاء إقصاء الممثلين المحترفين عن تجسيد الشخصيات الدرامية، والاستعانة بمجموعة من الهواة، في صالح الفيلم كونه أضفى واقعية على الأحداث ومصداقية للشخصيات وتلقائية في الأداء، مع الاعتراف بهنات التجربة الأولى، وهي قليلة مقارنة بالإيجابيات الكثيرة للتجربة الفريدة؛ إذ جرت العادة أن يجتمع عدد من المخرجين في فيلم واحد لكن كل واحد منهم يتحرك بشكل مستقل في اتجاه إخراج قصة مختلفة، وبطاقم عمل مغاير وكأنه يُنجز فيلماً قصيراً. لكن جدة وإثارة تجربة «أوضة الفيران»، الذي يمثل تجربة إنتاج مشترك بين مصر والإمارات العربية المتحدة، أن المخرجين الستة بدأوا بالفعل في تصوير قصص الشخصيات بشكل منفصل، وكأنها ستة أفلام قصيرة، لكنهم اتخذوا قراراً في ما بعد أن يدمجوا الأفلام الستة في فيلم واحد طويل؛ بحيث تنتقل الأحداث من قصة إلى أخرى، عبر المونتاج، وكأنها تعكس مصير شخصيات قادتها الأقدار إلى أن تعيش في جزر منعزلة. ونجحت التجربة بدرجة واضحة في تكثيف الشعور بالعزلة والقلق والخوف؛ خصوصاً أن الهم بين الشخصيات جميعاً بدا مشتركاً إلى حد كبير، وكأنهم اتفقوا على أنهم يعيشوا في «أوضة الفيران»، بل هم «الفئران» في هذا العالم الموحش القاسي الذي يلاحق البشر ويُضيق عليهم ويحرمهم من الحياة في أمان من دون أن ينغص عليهم صفوهم وهدوءهم واستقرارهم. لم تخل التجربة من اجتهاد واضح من المخرجين الستة، في التمرد على النظريات الفنية الكلاسيكية، والضرب بيد من حديد على القواعد الجامدة؛ خصوصاً في ما يتعلق بالتصوير (محمد الحديدي وإسلام كمال ومي زايد) والموسيقى (آنا دروبيش). لكن يستحق إسلام كمال، الذي تحمل مسؤولية المونتاج، التحية لنجاحه في إحكام السيطرة على الفيلم رغم ما أشرنا إليه من تصويره وكأنه عدة أفلام قصيرة، و»الهارموني» الذي اتسمت به التجربة، بحيث لا تشعر أنك تُشاهد فيلماً من إخراج ستة مخرجين، في حال إذا لم تكن تعرف هذه الحقيقة من قبل، بل أن أحداً من المخرجين، في مثال واضح للتجرد والإيثار والتعالي على الصغائر، لم يشترط مثلاً أن يُكتب اسمه على الجزء الذي أخرجه، كما جرت العادة، وطوال فترة مشاركتهم في فعاليات الدورة العاشرة لمهرجان دبي السينمائي كنت ألاحظهم وهم يتحركون بشكل جماعي كما التوأم، ويتحدثون معاً إلى الصحافيين ومندوبي الفضائيات من دون أن يلجأ أحد منهم للانفراد بكاميرا أو الهيمنة على جهاز تسجيل في يد صحافي بُغية تسليط الضوء على نفسه فقط. الأمر الذي لا شك فيه أن فيلم «أوضة الفيران»، الذي اعتمد على ممثلين هواة من الإسكندرية، وصور أحداثه بالكامل في المدينة التي شهدت، في يناير 1896، ثاني عرض سينمائي في العالم، سيفتح آفاقاً جديدة للسينما المصرية، ويخرج بها من «المصيدة»، التي سقطت في براثنها نتيجة هيمنة النجوم، واحتكار الموزعين، والدوران في فلك النظريات التقليدية العقيمة للإنتاج!