لا شك أن نفوذ المعسكر اليميني يشهد نمواً تصاعدياً في أوروبا، صحيح أن الأحزاب اليسارية أبلت بلاء حسناً في الانتخابات الأخيرة للبرلمان الأوروبي، لكن تمحورت الأحداث بشكل أساسي حول المعسكر اليميني في السنوات الأخيرة، وقد اتضح ذلك من خلال زيادة شعبية "الجبهة الشعبية" برئاسة مارين لوبان في فرنسا، لكن ثمة قاسم مشترك بين الدنمارك والنمسا وفنلندا وهولندا وسويسرا وصربيا أيضاً، وهو يتعلق بحيوية الحركات السياسية القومية.
حصدت الأحزاب اليمينية في فرنسا والدنمارك ربع الأصوات في الانتخابات التي جرت في أواخر شهر مايو، بينما حصد معسكر اليمين في النمسا خُمس الأصوات، وفي غضون ذلك تصدّر حزب "جوبيك" في هنغاريا وحزب "الفجر الذهبي" في اليونان عناوين الصحف العالمية بسبب آرائهما اللاذعة التي تعكس نزعة فاشية جديدة، وقد حصدا شعبية واسعة وسط أعداد كبيرة من الناخبين. قد لا تكون هذه الأرقام كافية لإيصال الأحزاب اليمينية إلى السلطة التنفيذية، لكنها كانت غير واردة منذ سنوات، فتُعتبر هذه الأحزاب معادية للهجرة تقليدياً وقد أصبحت في الفترة الأخيرة موالية لروسيا في ملفات كثيرة، ولا يعني ذلك أنها تحب روسيا، بل إنها ترى روحاً تشبهها في الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي يُعتبر رجعياً وقومياً انتقامياً، كونه لا يزال مستاءً من ميزان القوى الذي ساد في حقبة ما بعد الحرب الباردة، وهو يفكر وفق منطق الدول الإثنية بدل تجاوز حقبة الدول القومية. مثل روسيا في عهد بوتين، أكثر ما تخشاه تلك الأحزاب هو انتشار المسلمين في أوساطها؛ لذا أصبح بوتين رمزاً لليمينيين، بدءاً من فرنسا وصولاً إلى اليونان.ما الذي يقف وراء هذه الظاهرة؟يبدو أن توافد المهاجرين من الدول الإسلامية في شمال إفريقيا وأجزاء أخرى من البلدان النامية على مر السنوات والعقود أدى إلى تهديد المجتمعات التي كانت سابقاً متماسكة وأحادية الانتماءات العرقية في أوروبا، ثم وقعت الأزمة الاقتصادية طوال خمس سنوات داخل الاتحاد الأوروبي، مما أدى إلى نمو ضعيف أو سلبي مقابل ارتفاع مستويات البطالة، وهذا ما سمح بتراجع الدعم لتدابير التقشف. هذا الخليط من الضغوط الاجتماعية والاقتصادية تسبّب في نزع الشرعية عن المفوضية الأوروبية، مما يسمح لشخص مثل بوتين، الذي يتحدى تلك المؤسسة وما ترمز إليه، بأن يصبح قطباً جاذباً.كذلك، تعكس المفوضية الأوروبية في بروكسل معنى آخر تعارضه تلك الأحزاب اليمينية، لكن لا يلاحظه الكثيرون بشكل عام: باختصار، هي تمثل معسكر اليسار التاريخي القديم، فلا نعني به اليسار الشيوعي المتطرف بل اليسار التقليدي المعتدل. في ما يخص الاتحاد الأوروبي بعد الحقبة القومية يتمحور مشروع تاريخي يساري أو يساري وسطي منذ عقود حول مبدأ "دولة الرفاهية الاجتماعية" (لكنه مدعوم بضرائب مرتفعة وميزانيات دفاع ضئيلة)، إذا وُجد ذلك المشروع أصلاً، أقله وفق نظرة اليمينيين إلى العالم.لا شك أن النخبة البيروقراطية في عاصمة الاتحاد الأوروبي بروكسل، تلقّن سلوكيات اليسار التقليدي أكثر مما تسوّق لمعسكر اليمين التقليدي، ولا عجب أن نجد الكثير من أعضاء حركة الاحتجاج الطلابية التي انطلقت في الستينيات بين "اليوروقراط" الأكبر سناً، وتكمن المفارقة في واقع أن ميزانيات الدفاع الأميركية المرتفعة طوال سنوات الحرب الباردة هي التي سمحت بتوفير مظلة أمنية لأوروبا في وجه الاتحاد السوفياتي، مما وفّر الحرية المالية لأوروبا كي تكرس نفسها للبرامج المحلية المكلفة التي ينفذها اليساريون عموماً، وبما أن الأزمة الاقتصادية المطولة في القارة تمعن في إضعاف سمعة الاتحاد الأوروبي، بدأت سمعة اليساريين تتأثر بدورها، ومن الملاحظ أن تنامي نفوذ اليمين السياسي في أوروبا راهناً يتزامن مع تراجع نفوذ اليسار "باستثناء اليونان طبعاً". في زمن الضغوط الاجتماعية والاقتصادية، لا يشكّل معسكر اليسار مصدر إلهام بقدر اليمين. اليوم، أصبحت جاذبية الأحزاب الشيوعية القديمة التي انتشرت في أوروبا الغربية وتصدرت سابقاً عناوين الصحف خلال الستينيات والسبعينيات، في ذروة الحرب الباردة، جزءاً من الماضي الغابر. يجب ألا ننسى أن الحرب الباردة كانت قريبة في الزمن من الحرب العالمية الثانية، بل إنها شكّلت المرحلة الأخيرة من تلك الحرب، وفي ذلك العصر، كان معسكر اليمين قد فقد شرعيته بسبب ما فعله هتلر وموسوليني قبل فترة قصيرة، لكن مع زوال الحرب العالمية الثانية من المشهد العام، وفي ظل الصعوبة الراهنة التي تواجهها مؤسسة سياسية رصينة ومعتدلة لإيجاد المسار الصحيح لتجاوز الأزمة الاقتصادية، بدأ وهج اليمين يلمع مجدداً كما حصل مع اليسار سابقاً، ومن ناحية معينة، يشير تنامي نفوذ اليمين في أوروبا إلى أن أثر الحرب الأوروبية الطويلة، بين عامَي 1914 و1989، انتهى أخيراً. لقد تلاشت جميع المحرمات ضد الفاشية الجديدة، هذا هو الخطر الأكبر.سيكون تخفيف وقع هذا الخطر أشبه بتطبيق العولمة نفسها على شكل تقنيات اتصال جديدة، بدءاً من السفر الجوي وصولاً إلى الهواتف الذكية، لدرجة أنّ تمكين الجماعات المتفرعة من الدولة (يجمعها في بعض الحالات الرابط العرقي) يعني أيضاً تعزيز أشكال جديدة وأكثر تعقيداً من الهوية غير المترسخة في المعالم الجغرافية. قد يعني ذلك أن النزعة القومية اليمينية العرقية التي بدأت تتبلور راهناً في أوروبا ستكون مجرد نسخة مخففة من النزعة التي اجتاحت القارة خلال الثلاثينيات.على صعيد آخر، يبدو أن توسع الفئات العمرية المسنّة في أوروبا (معدل الولادات شبه معدوم)، إلى جانب استمرار توافد المهاجرين من الدول الأقل تقدماً، سيتابعان تأجيج المخاوف التي تعزز نفوذ الأحزاب القومية التي يجمعها الرابط العرقي، وسيزداد الوضع سوءاً إذا طالت الأزمة الاقتصادية. في النهاية، ستجد النزعة "اليوروقراطية" في بروكسل، فضلاً عن الأنظمة المحاصرة سياسياً في مختلف العواصم، صعوبة في إحداث التعديلات الحيوية اللازمة كي تستعيد أوروبا نموها القوي، وفيما يتعلق بالحشود الأوروبية، بدأ حس الأمان (على المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية) يضعف على جميع الجبهات، وفي ظل هذه الظروف، يبدو أن اليسار لا يقدم الحلول الفاعلة بقدر المعسكر اليميني، لأن اليساريين لا يستطيعون أن يبرروا أفكارهم استناداً إلى عواطف رجعية.وأدى تنامي نفوذ النزعة القومية العرقية في أوروبا خلال الثلاثينيات إلى نشوء حرب بين الدول، لكنّ تنامي نفوذ القومية العرقية في بداية القرن الحادي والعشرين لن يفعل ذلك حتماً، بل إننا سنشهد أولاً زيادة في نفوذ الدول الصغرى مثل أسكتلندا وكاتالونيا، وبالنسبة إلى أوروبا الموحدة، مهما كانت هشة من الناحية الاقتصادية، فسيسمح نقل السلطة جزئياً إلى بروكسل من العواصم الوطنية بازدهار هويات الدول الفرعية استناداً إلى معطيات جغرافية معينة. ثانياً، قد نشهد شكلاً من الشلل داخل الدول نفسها، فقد تؤدي الردود القومية على المجتمعات التي تستقبل الوافدين من مختلف الخلفيات الثقافية إلى إضعاف الحكومات المنتخَبة، فمن المعروف أن الحكومات المستضعفة التي تنخفض فيها نفقات الدفاع، بعد عقود على تجريد الجيوش القومية من شرعيتها، لا تخوض الحرب مع حكومات ضعيفة أخرى. كذلك، سيتراجع التهديد الروسي لأوروبا الوسطى والشرقية في نهاية المطاف بسبب مشاكل روسيا الاقتصادية والاجتماعية، ولن تسيطر روسيا على أسواق الطاقة مستقبلاً كما تفعل الآن، وهكذا ستضعف ورقة الضغط الروسية على بولندا ودول البلطيق وغيرها.باختصار، يشكل تنامي نفوذ معسكر اليمين جزءاً من الخطاب بشأن تراجع دور أوروبا ومكانتها في العالم تزامناً مع استمرار نمو مجتمعات حيوية من الناحية الديمغرافية والاقتصادية على المحيط الهندي الأكبر وفي أماكن أخرى. تماماً مثل اليسار الأوروبي، لن يجد اليمين القومي أي حلول للأزمة الراهنة، وغالباً ما تتصدر الأماكن التي تشهد تراجعاً نسبياً عناوين الصحف، وهذا ما يحصل مع أوروبا الآن.*ستراتفور
مقالات - زوايا ورؤى
المنطق اليميني العميق في أوروبا
09-06-2014