مديحة يسري... سمراء النيل: بعدك... على بالي (15)

نشر في 13-07-2014 | 00:02
آخر تحديث 13-07-2014 | 00:02
هي الآن «ذات وحيدة» في مواجهة وحشة الأيام، رحل من كان يملأ حياتها صخباً وضجيجاً و{حياة»، رحل من لون أيامها فرحاً، وأزال كل ما علق بروحها من حزن وألم ومنحها السعادة، فكانت أيامها معه أقرب إلى حلم جميل لكم تمنت ألا ينتهي.
قضي الأمر وغيب الموت أحمد سالم، وكان عليها أن تتجاوز فكرة رحيله، رغم «الصمت» الذي غلف المكان من حولها، وشريط الذكريات الذي أبى أن يفارقها، لولا قليل من الأصدقاء قاسموها لحظات الحزن والألم، وأشعلوا حماستها مجدداً للحياة، ونجحوا في جعلها تستعيد توازنها ومن ثم حياتها.

ودّعت مديحة زوجها إلى مثواه الأخير، ودخلت في حالة من العزلة والحزن لم يكسرها إلا الأصدقاء: ليلى مراد وتحية كاريوكا ومحمد فوزي الذين ساندوها في محنتها، وبالأخص فوزي الذي سبق أن شارك مديحة في دور صغير في فيلمها «قبلة في لبنان» للمخرج أحمد بدرخان، وذلك قبل أن تتوطد علاقته بسالم ويصبح أحد أقرب أصدقائه.

في هذا الوقت أصبح فوزي نجماً كبيراً، وهو مطرب وملحن وممثل، ولد بإحدى قرى محافظة الغربية عام 1918، عشق الموسيقى والغناء منذ كان طالباً في المرحلة الابتدائية، ما دفعه إلى الالتحاق بمعهد الموسيقى العربية (معهد فؤاد الأول)، إلا أنه تخلى عن الدراسة ليعمل في ملهى الشقيقتين رتيبة وإنصاف رشدي، قبل أن تغريه بديعة مصابني بالعمل في صالتها، فتعرف على فريد الأطرش، محمد عبد المطلب، محمود الشريف، وربطتهم جميعا صداقة قوية، واشترك معهم في تلحين اسكتشات واستعراضات وغنائها، ما ساعده لاحقاً في أعماله السينمائية.

تعثر فوزي في بداياته الفنية، قبل أن يطلبه يوسف وهبي ليمثل دوراً صغيراً في فيلم «سيف الجلاد»، فكان بمثابة نقطة انطلاقة سينمائياً، إذ شاهده المخرج محمد كريم الذي كان يبحث عن وجه جديد يسند إليه دور البطولة في فيلم «أصحاب السعادة»، أمام سليمان نجيب والمطربة رجاء عبده، فوجد ضالته في محمد فوزي، الذي حقق نجاحاً عبر هذا الفيلم، أتاح له لاحقاً التربع على عرش السينما الغنائية والاستعراضية طيلة الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي، فقدم في الفترة من 1944 إلى 1959 نحو 36 فيلماً خلافاً لمطربين آخرين لم يحفل مشوارهم الفني بهذا الكم من الأفلام، ساعدته على ذلك جاذبيته.

الخروج إلى النهار

كانت علاقة مديحة قد توطدت بفوزي بعد رحيل سالم، وكان أكثر الأصدقاء حرصاً على مواساتها وإخراجها من أزمتها، ومحاولة إعادتها إلى الفن الذي هجرته حزناً لا عمداً، فأقنعها بضرورة كسر حالة الحزن واستكمال بقية مشاهدها في فيلمي «دموع الفرح» آخر أفلام سالم، الذي داهمه المرض أثناء تصوير آخر مشاهده، و{رجل لا ينام» الذي أخرجه يوسف وهبي، بالإضافة إلى كتابته قصته والتمثيل فيه.

فوزي: لازم يا مديحة تخرجي من حالة الحزن دي، أنت ست مؤمنة وعارفة إن الموت علينا حق.

مديحة باكية: ونعم بالله.

تابع فوزي مواساته قائلا: عارفة مش حيخرجك من الحالة دي إلا الشغل.

مديحة: مش قادرة يا فوزي، صدقني مش قادرة أقف قدام كاميرا، ولا أمثل، ده أنا في البيت هنا كل حاجة بتفكرني بيه، فما بالك بقى بالأستديو.

صمتت لحظة قبل أن تتابع قائلة: وبفرض إني قدرت وضغطت على نفسي، استحالة الفيلم ده يكمل لأن معظم المشاهد اللي فاضلة المفروض أنها معاه، كمان هو المخرج والمؤلف يعني مش حينفع... مش حينفع.

هدأ فوزي من روعها قائلا: لازم تحاولي يا مديحة، لازم نكمل آخر فيلم له مينفعش يدفن معاه... حتى من باب الوفاء له يا مديحة لازم نكمل الفيلم، لو كلنا بنحب سالم وعندنا وفاء له لازم نكمل فيلمه.

بعدها بأيام تابع فوزي ضغطه على مديحة لتستأنف «رجل لا ينام» بعدما علم من بعض المقربين من يوسف وهبي مخرج الفيلم أنه يُحرج في مفاتحتها بضرورة استكمالها لدورها، نظراً إلى الخسائر التي يسببها توقف العمل.

فوزي: مديحة عاوز أكلمك في موضوع محرج شوية.

مديحة: خير يا فوزي قلقتني.

فوزي: خير بإذن الله، أنا بس عرفت أن الأستاذ يوسف بك وهبي متضايق من توقف التصوير ومحرج يتكلم معاك علشان تستكملي الفيلم.

صمتت مديحة، فتابع فوزي: هو طبعاً مقدر ومستوعب الظروف وحالة الحزن والحداد اللي أنت فيها، علشان كده محرج يكلمك، بس أنت كمان لازم تقدري الخسائر اللي بيتحملها كل يوم التصوير بيتعطل فيه، وأنت منتجة وعارفة الكلام ده كويس.

بدا أن كلام فوزي ترك أثراً على مديحة، فاستمرّ في إقناعها قائلا: صدقيني يا مديحة الحزن في القلب، والحزن اللي أنت فيه مش حيخرجك منه إلا الشغل، لازم تشتغلي كتير، مش بس تكملي الأفلام دي، لا وتعملي أفلام جديدة كمان.

اقتنعت مديحة بكلام فوزي وبالفعل بدأت استكمال «رجل لا ينام» مع يوسف بك وهبي، ليتمكن المخرج فطين عبد الوهاب الذي كان مساعداً للراحل أحمد سالم في آخر أفلامه «دموع الفرح» من إجراء تغييرات مناسبة على الأحداث فتبدو معها منطقية ومقنعة، بعد رحيل بطل الفيلم.

بالفعل تحمل فطين مسؤولية هذه التغييرات وإنقاذ الموقف، ما كشف عن قدرات مخرج كبير سيصبح، بعد ذلك، أحد رواد الإخراج السينمائي في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، إذ قدم أفلاماً ما زالت عالقة بذاكرة السينما المصرية، حتى لقب بـ «رائد الكوميديا الراقية» لكثرة إنتاجه لهذا اللون، أبرزها: معظم أفلام إسماعيل ياسين، «إشاعة حب، كرامة زوجتي، مراتي مدير عام، الزوجة 13، نص ساعة جواز، عائلة زيزي، آه من حواء، الأستاذة فاطمة»...

استمر مشواره ما يقرب من 32 عاماً، أخرج خلالها أكثر من 50 فيلماً، تزوج أربع مرات، ثلاثة من داخل الوسط الفني أبرزهن ليلى مراد التي أنجب منها ابنه المخرج زكي.

تعاون

استعادت مديحة نشاطها الفني تدريجاً، ويوماً بعد آخر بدأت تتوازن نفسياً بشكل أفضل، ساعدها على ذلك قرارها الانتقال إلى منزل جديد لصعوبة أن تعيش محاطة بذكريات جمعتها بـ «الدنجوان الراحل»، فيما تابع فوزي، الصديق الوفي، رعايته للأرملة الحسناء، وحثها على العمل بوصفه طريقها للخلاص، حتى فوجئت به في أحد الأيام يحدد معها موعداً لزيارتها، عارضا عليها مشاركته فيلمه الجديد «فاطمة وماريكا وراشيل»، الذي خاض به أولى تجاربه مع الإنتاج، مسنداً مهمة إخراجه إلى حلمي رفلة.

بدأ رفلة مشواره مع السينما كخبير تجميل، وسافر إلى فرنسا ليتعلم «فن الماكياج»، وهو لا يملك مالاً، فكافح وتعلم الكثير من أسرار الماكياج والإخراج السينمائي كفن ناشئ، ومن ثم بدأ مع السينما منذ أصبحت ناطقة، وقد جمع رفلة بين التأليف والإنتاج والإخراج، وكان له الفضل في اكتشاف نجوم السينما المصرية في مقدمهم شادية، ومن أشهر أفلامه «ألمظ وعبده الحمولي»، وشارك محمد فوزي أفلامه سواء كاتباً أو مخرجاً ثم منتجاً.

فوزي لمديحة: أنا بإذن الله داخل فيلم جديد من إنتاجي وعاوزك معايا فيه إيه رأيك؟

مديحة: ألف مبروك يا فوزي أنت تستاهل كل خير، وطبعاً تحت أمرك بس مش لما أقرأ السيناريو الأول؟

فوزي بحسم: السيناريو أهو ومالكيش حجة والدور حيعجبك جدا، كأنه متفصل علشانك، أنت اقريه بس وبكرا نتقابل تقوليلي رأيك إيه، ولو في عندك أية ملحوظات نشوفها.

مديحة: هو مين اللي كتبه؟

فوزي: أبو السعود الإبياري وحيخرجه حلمي رفلة.

مديحة: مش حلمي ده الماكيير؟

فوزي: أيوه هو، وعلى فكرة هو مخرج موهوب أنا شخصيا براهن عليه، كمان هو درس الإخراج في باريس جنب دراسته للماكياج .

تابع بحسم: أنت بس اقرأي السيناريو ونتكلم بكرا.

وفعلا في اليوم التالي زار فوزي مديحة ليتعرف إلى رأيها في الفيلم:

فوزي: ها عجبك الفيلم يا مديحة.

مديحة: هو بصراحة الفيلم حلو قوي يا محمد ومكتوب كويس وشخصيتي في الفيلم دمها خفيف بس....

فوزي مندهشاً: بس إيه؟

مديحة: حاسة إني مش متحمسة.

فوزي باندهاش أكبر: مش متحمسة للدور ولا للفيلم نفسه؟

مديحة بحسم: مش عارفة بالضبط... (ضاحكة) الظاهر نسيت التمثيل أصلا.

تابعت بجدية: لا بجد حاسة إني مش قادرة أمثل تاني، فاكر آخر مشاهد عملتها في «رجل لا ينام» كانت وحشة إزاي، أنا معملتهاش كويس لأن حالتي النفسية كانت سيئة وده بان في الفيلم.

تنفس فوزي الصعداء قائلا: لا مينفعش كده يا مديحة، إحنا اتفقنا نتجاوز المرحلة دي، وإن الشغل هو الحل، وأنه هو اللي حيخلصك من الحالة دي، كمان أنت ممثلة موهوبة وشاطرة جداً فلازم تخرجي من الحالة دي وترجعي مديحة بتاعت زمان، وعاوزك بقى تذاكري الشخصية كويس علشان هنبدأ تصوير الأسبوع الجاي، وبعدين ده أول إنتاج ليا أنت مش عاوزة تساعديني ولا إيه.

مديحة: لكن يا فوزي؟

قاطعها قائلا: مفيش لكن يا مديحة خلاص أنا اعتبرتك موافقة وهنقعد في استوديو مصر مع حلمي رفلة الأسبوع الجاي علشان نتفق على باقي التفاصيل.

فيلم «فاطمة وماريكا وراشيل» كتب له السيناريو والحوار أبو السعود الإبياري، وهو سيناريست ومؤلف أغاني وكاتب صحافي مصري، ولد سنة 1910 بحي باب الشعرية بالقاهرة، وبدأ مشواره الفني كاتباً للزجل والمسرح مع بديع خيري، قبل أن ينقل نشاطه إلى السينما مؤلفاً لكمّ من الأفلام الغنائية والكوميدية، أبرزها أفلام إسماعيل يس وفريد الأطرش ومحمد فوزي.

الفيلم مأخوذ عن المسرحية الشهيرة «زواج فيغارو»، وتدور أحداثه في إطار كوميدي حول يوسف، شاب يهوى الارتباط بالفتيات من دون زواج، يوهم ماريكا بأنه سوف يتزوجها، ثم يدعي أنه ليشع عندما يضطر لخطبة راشيل، حتى يجبره أبوه على زواج مصلحة من ابنة صديقه، إلا أنه يقع في حب فاطمة رغم أنها تقدم له بوصفها خادمة الفتاة التي يرغب والده في تزويجه إياها، فيثور والده مهدداً بحرمانه من الميراث، في حال رفضه الانصياع لأوامره، ويمضي في تحدي والده في الارتباط بمن دق لها قلبه، وذلك قبل أن يكتشف أنها ابنة صديق والده وأنها كذبت عليه وانتحلت صفة الخادمة كي تهرب من زواج فرض عليها من قبل والدها، لينتهي الفيلم بزواج يوسف من فاطمة بمباركة الأهل.

بدأ فوزي التحضير للفيلم، وأشرك مديحة معه في مجمل التفاصيل مستفيداً من خبرتها السابقة في مجال الإنتاج، ومن جانبها لم تبخل عليه بأي استشارات أو معلومات يمكن أن تفيده في مهمته الجديدة كمنتج، ما يضمن له النجاح في أولى خطواته في هذا المجال، ففرح فوزي لحرصها على إنجاح تجربته، ما أتاح له الاقتراب منها أكثر، واكتشاف جوانب خفيّة في شخصيتها لم يتح له معرفتها من قبل على هذا النحو من الدقة، ربما في مقدمها {الجدعنة} وعشقها للعمل ومدى تفانيها وإخلاصها له.

                                               

اكتشاف

اجتهدت مديحة في استعادة نجوميتها التي فقدت جزءًا منها بسبب العزلة التي فرضتها على نفسها بعد وفاة سالم، ساعدها على ذلك طبيعة شخصية فاطمة التي رشحت لتجسيدها في هذا الفيلم، لا سيما أنه ينتمي إلى السينما الكوميدية، ما يتطلب أداءً مختلفاً، يسبقه تفهم للشخصية ورسم ملامحها بما يتماشى مع العمل ويضمن له النجاح، لذا حرصت على مناقشة مؤلف الفيلم أبو السعود الإبياري في مجمل التفاصيل، كذلك مخرجه حلمي رفلة، وبدأت البحث عن ملابس مناسبة للشخصية وتفاصيل كثيرة اهتمت كعادتها بها وذلك قبل حفظ دورها بما أذهل فوزي ورفلة والإبياري.

فوزي: شفتي يا مديحة بقى أنه كان عندي حق لما قلت لك إن الشغل هو الحل، أديك شايفه الكل مبهور بيك، كمان الدور كأنه متفصل عليك.

تضحك مديحة: الحمد لله، بس أنت بتتكلم جد ولا بتجاملني؟

رد ضاحكا: وحأجاملك ليه أنت ناسيه إني المنتج ولو مش عجباني كنت طلبت تغييرك.

رغم الصداقة التي ربطت بين مديحة وفوزي، وإدعائها بأنها تعرفه جيداً، فإن هذه التجربة كشفت لها شخصاً جديداً بدا كأنها لم تعرفه سابقاً وعلى المستويات كافة، إنسانياً وفنياً، فمثلا مدى خفة ظله وحرصه على تسييد مناخ من المرح والود والحميمية داخل البلاتوه، وبصورة لم تشهدها من قبل، ولم تتخيلها أصلا.

راح فوزي يملأ البلاتوه بقفشاته وضحكاته وأغنياته، لدرجة أنها كانت تصور أكثر من 14 ساعة في اليوم ومن دون أن تشعر هي أو غيرها بأي تعب أو ملل، ما انعكس على الفيلم لاحقاً، واعتبره النقاد أحد أفضل الأفلام التي قدمها فوزي في تلك المرحلة من عمره الفني، رغم كونه مقتبساً بتصرف عن المسرحية العالمية «زواج فيغارو».

تضمن الفيلم أغنية ساخرة أدرجها أبو السعود الإبياري ضمن الأحداث ردد فيها البطل «كان بدري عليك... عليك بدري»، في إشارة إلى سخرية البطل من الوقوع في دائرة الزواج، فالتقط فوزي الدف ثم راح يدق عليه دقات حزينة جنائزية تدعو إلى الرثاء وهو يردد هذه العبارة... بدا كما لو كان يرثي حاله ولا يقدم مشهداً يجتهد أن يكون صادقاً.

فجأة اكتشفت مديحة أنها لا تعرف الكثير عن حياة فوزي الخاصة، رغم رباط الزمالة والصداقة الذي جمعهما، حاولت أن تتذكر كم مرة رأته برفقة زوجته هداية أم أولاده نبيل وسمير ومنير، لم تفهم هل يتعمد إبعادها تأثراً بشرقيته كما يحلو له أن يفخر دوماً، أو لأسباب أخرى تتعلق بانفصال «نظري» ربما يدخل دائرة التنفيذ... لم تفهم مديحة والأهم أنها لم تسأل..

اكتفت بالمشاهدة عن بعد، محترمة المسافات والحدود التي رسماها بينهما دونما اتفاق...

إلى الحلقة المقبلة

back to top