بداية عهد مودي في الهند
في الأيام التي تلت السادس عشر من مايو، حين حقق ناريندرا مودي وحزبه "بهاراتيا جاناتا" فوزاً كبيراً في الانتخابات العامة الهندية، ركّزت معظم التعليقات على التاريخ، فقد اعتبر معظم المعلقين، على ما يبدو، أن شهر مايو عام 2014 يصف لحظة تاريخية، ويعود ذلك في جزء منه إلى نطاق انتصار مودي الساحق، الذي منح حزب "بهاراتيا جاناتا" 282 مقعداً وبالتالي الأكثرية المطلقة في البرلمان، وتُعتبر هذه المرة الأولى منذ عام 1984 التي يفوز فيها حزب بالأكثرية وحده، كذلك هذه المرة الأولى التي يحقق فيها حزب، غير المؤتمر الوطني الهندي، إنجازاً مماثلاً، في الوقت عينه، تُعتبر هزيمة هذا المؤتمر أسوأ ما واجهه طوال تاريخه الطويل الحافل بالهيمنة على السياسات الهندية: فقد حصل على أقل من سدس مقاعد خصمه مع 44 مقعداً فقط، وفي الجزء الأكبر من شمال الهند، الذي يُعتبر قلب هذا البلد السياسي النابض، مُني هذا المؤتمر بهزيمة كاملة.رغم ذلك، لا يعكس انتصار مودي وهزيمة المؤتمر الوطني الهندي سوى جزء من هذه القصة البالغة الأهمية، ولا شك أن الاستياء العارم من أداء المؤتمر الوطني بدا جلياً، فقد شعر الناخبون بالغضب تجاه تفاقم التضخم، وتباطؤ النمو، وضعف القيادة، والفساد، والكثير من المسائل الأخرى. نتيجة لذلك، لم يفز حزب "بهاراتيا جاناتا" بالكثير من الأصوات فحسب، بل نجح بفاعلية في تحويل هذه الأصوات إلى مقاعد، فمع فوزه بنحو 31% من حصة الأصوات على صعيد الوطن، تمكن من السيطرة على ما يُقارب الـ52% من مقاعد البرلمان.
تشير هذه الوقائع إلى تبدّل مهم في السياسات الهندية، فقد قدّم حزب "بهاراتيا جاناتا" أداء ممتازاً لأنه تعاطى مع الانتخابات بطريقة أكثر إتقاناً واستراتيجيةً وفاعليةً، مقارنة بخصومه.بدا مودي خلال خطاباته الأولى بعد النصر كريم النفس وتفوّه بالعبارات الملائمة بشأن إدارة بلد للجميع ومشاركة الجميع في الحكم، كذلك ذكر في كلام لا يُعتبر دقيقاً بالكامل أن نجاح حزب "بهاراتيا جاناتا" يعلو فوق السياسات الطبقية والميول الدينية، ولو كان هذا الكلام صحيحاً بالكامل، لشكّل بالتأكيد سبباً آخر لاعتبار نتائج الانتخابات الأخيرة تاريخيةً، لكن حزب "بهاراتيا جاناتا" لجأ إلى حد ما إلى مسألة الطبقات والدين، كما حدث مثلاً عندما استغل مودي خلفيته من "الطبقات المتخلفة الأخرى" خلال حملته الانتخابية في أوتار براديش أو حين انتقد البنغلادشيين الذين يدخلون خلسة آسام وغرب البنغال. من المقلق أيضاً أن البرلمان الجديد سيضم عدد الأعضاء المسلمين الأقل منذ عام 1952، وأن حزب "بهاراتيا جاناتا" الحاكم لا يضم نائباً مسلماً واحداً بين مجموعته الـ282، مع أن المسلمين يشكّلون، وفق التقديرات، ما لا يقل عن 14% من الشعب الهندي. لكن كلام مودي يُعتبر صادقاً عموماً، فقد شدد بيان حزب "بهاراتيا جاناتا" وخطابات مودي على المسائل الاقتصادية والتنموية، ويعود النصر الذي حققه في المقام الأول إلى حديثه عن حكومة قوية والتحسينات في حياة الناخبين المادية، ومن المؤكد أن هذا مشجع. فقد أشار هذا الواقع إلى أنه سيسعى اليوم إلى الحكم بطريقة تعزز النمو الاقتصادي، وتولّد فرص العمل، وتحسّن البنية التحتية، فضلاً عن الحد من الفقر والتضخم. كذلك لم يتردد مودي في التلميح بوضوح إلى أنه يأمل البقاء في السلطة مدة تتخطى ولايته الحالية (5 سنوات)، فيتمكن من الفوز مجدداً في الانتخابات وتغيير الاقتصاد الهندي والمشهد السياسي.وماذا بعد؟ كان من المقرر عند صدور هذا المقال أن يجتمع حزب "بهاراتيا جاناتا" في العشرين من مايو لينتخب على ما يبدو مودي رسمياً زعيماً له، وتُعتبر هذه الخطوة الأولى التي تسبق تشكيل حكومة ستشمل حلفاء الحزب المباشرين الذين يؤلفون التحالف الديمقراطي الوطني، ولكن من الممكن أيضاً تشكيلها من ائتلاف أوسع، بما أن "بهاراتيا جاناتا" (إذا رغب في تمرير التعديلات التشريعية بسرعة) سيحتاج إلى مساعدة إضافية من أحزاب أخرى تسيطر على ولايات قوية، وخصوصاً إذا أراد الفوز بدعم أكبر في المجلس الأعلى في البرلمان.يتواصل القلق بشأن دور اليمين القومي الهندوسي، الذي كان لأنصاره مساهمة كبيرةً بالتأكيد في انتخاب مرشحي حزب "بهاراتيا جاناتا"، بما أن مودي كان عضواً ناشطاً في حركة "راشتريا سوايام سيفاك سانغ" اليمينية منذ كان ولداً، يأمل بعض اليمينيين أن يطبق أجندة مؤيدة للحركة الهندوسية المتطرفة "الهندوتفا" (مثل بناء معبد في أيوديا أو تغيير الوضع الدستوري لكشمير ذات الأغلبية المسلمة). في المقابل، يبحث آخرون عن أدلة تُظهر أن قومية من النوع الحمائي ستحظى بتأثير أكبر في سياسات مودي. على سبيل المثال، ردد ناطقون باسم حزب "بهاراتيا جاناتا" أن هذا الأخير ما زال ينوي تبديل سياسة قائمة، ما يسمح للمستثمرين الأجانب بفتح سوبرماركات في المدن الكبيرة، إلا أن هذه الخطوة ستبقى رغم ذلك خاضعة لقيود محددة.من الحكمة بالتأكيد أن يحد مودي من تأثير كلا هذين النوعين من القومية، وكي يعزز ثقة الشعب بأنه يستطيع دفع الاقتصاد إلى النمو بسرعة أكبر، عليه إنجاز بعض المهمات الصعبة، وخصوصاً جذب المزيد من رؤوس الأموال الأجنبية إلى عدد كبير من القطاعات، منها التأمين، والمصارف، والدفاع، وأجزاء كبيرة من البنية التحتية. كذلك عليه أن يوجه رسالة واضحة (بينما يعمل على اختيار الوزراء ويحدد السياسات) مفادها أن الهند تطمح إلى أن تكون أقوى باعتمادها على النمو الاقتصادي، والمزيد من التجارة الدولية، والتفاعل العالمي الأعمق، لا على تعزيز الميول القومية في الداخل. تمتع مودي بسجل جيد من الانفتاح على الدول الأخرى، خصوصاً اليابان، عندما كان رئيس حكومة غوجارات، ومنذ انتصاره في السادس عشر من مايو، تلقى اتصالات من باراك أوباما، وديفيد كاميرون، ومجموعة من المهنئين العالميين التواقين إلى التعامل مع الهند على الصعيد الدولي. على سبيل المثال، أوضح الرئيس أوباما أن الولايات المتحدة ترحب بزيارة رئيس وزراء الهند، فيرغب الأميركيون على وجه الخصوص إنهاء المرحلة السابقة حين ارتكز التعامل مع مودي على سجله في التعاطي مع العنف الاجتماعي في ولايته عام 2002، فيبدو بكلمات أخرى أن مودي، بتحقيقه هذا الفوز الكبير في السادس عشر من مايو، قد نجح في صنع التاريخ والهرب منه في آن واحد، ولا شك أن هذا إنجاز كبير.