سليمان الفليّح
هناك فئة من الشعراء يتعلق بهم بعض الناس، ويتحفظ عليهم البعض الآخر، وينتقدهم الضالعون في حرفة الشعر ونقده، ويحتار آخرون أين يضعونهم في سلم طبقات الشعراء. ولكن وحدهم الذين يتعلقون بهذا الكائن الشعري يظلون عالمين بسره المكنون، وبشمعته الضئيلة المعجون بالهشاشة والكدح وعذابات الروح المتطلعة. هؤلاء يعرفونه لأنهم ببساطة يشبهونه ولا شك في لامثاليتهم الإنسانية المحضة، وفي خوضهم في مياه الحياة وطينها الحار، ويشبهونه في كلامهم الفوضوي الدارج المرصع بالأخطاء اللغوية والتجاوزات العروضية، ويشبهونه أيضاً في نضالهم اليومي مع لاشعرية الوجود وصفاقة العيش. وعلى قدر ما يصبح الشاعر لامثالياً بسبب ارتكاباته الفنية وانطوائه على الهشاشة الإنسانية، على قدر ما يجد لنفسه ذلك الهامش من الحب الغامض الملتبس! إذ ليس من الفضيلة أن يكون الشاعر كاملاً. قد لا يستطيع شعر سليمان الفليّح أن يضمن لنفسه مكاناً عليّاً بين دواوين الشعراء (المُجيدين) ، ولا أعتقد أنه سوف يدرّس ضمن مناهج المدارس النظامية، وقد تبحث عنه في بعض المكتبات فلا تجده، لكنه رغم ذلك سيظل يمثل ذلك اللون من الشعر المتقشف النادر المكتفي بذاته، ذي الصبغة (الصعلوكية) المتفردة التي لا يشبهها شعر. وهذا التفرد بالثيمة الشعرية هو ما أعطى سليمان الفليّح شخصيته الاعتبارية ووهجه الفني، ثم جاء الموت ليعطي هذا الوهج بعداً آخر كما هي عادة الموت.
كانت الصعلكة طريقاً لا مفرّ منه لشاعر مثل سليمان الفليّح يعيش تجربته الشعرية بمستوييها الفني والواقعي، فغدت الصعلكة حينها قدراً وواقعاً يتلبس الشاعر، فيتخذها مطيته وأداته الوحيدة لبث معاناته واستهجانه لواقع ينبذه أو يهمّشه. ولعل في ارتداء ثوب الصعلكة وإعلانها صهوة انطلاقه ما أعانه على التماهي بشخصيات الصعاليك (ببعدهم التراثي)، واكتساب جرأتهم في المشاكسة والمناوشة والسخرية والتهكم، وزهوهم بشجاعة المواجهة والتحدي، وإخلاصهم للشظف ورقة الحال وخشونة العيش.يمكن اعتبار سليمان الفليّح الشاعر والإنسان خير من عبّر عن أزمة جيله من أبناء البادية المتناثرين على مشارف مدن المنطقة، الذين لفظتهم الصحراء لشحّها أو لانتهاء عهدها كموطن في زمن التحضر الكاسح. فوجدوا أنفسهم منكفئين على تخوم مدن ترفضهم أو تتحفظ في قبولهم ، وتعدهم من المتطفلين أو الزائدين عن الحاجة. وتكاد معاناة الفليّح – من هذا الوضع المقلق واللاإنساني – المنطوي على التشرذم وفقدان الأمن وضياع الهوية، تشكل بؤرة المعاناة في مجمل أعماله الشعرية. إنه يجد نفسه كائناً منبتاً يقف بين عالمين موحشين: أحدهما صحراء غاربة تتلاشى روحها الأليفة وبراءتها وطهرها، بكل ما تمثله من قيم الأصالة والانتماء إلى الجذور والحضن. وثانيهما مدينة تنطوي على القسوة والنبذ ومعاداة أولئك اللاجئين إليها، الذين افتقدوا نتيجة للمتغيرات الاجتماعية والسياسية عنفوانهم وشموخهم، وغدوا جماعة من المستعطين الممتلئين بالأحزان، والقابضين على السراب. في أعمال الفليّح عامة يسكن لونٌ من النشيج الخفي والحنين الجميل واللوعة المستكنّة التي لا تغادر، ولعل هذه الروح القلقة المروَّعة هي ما تعطي شعره تلك الجاذبية والأنس والقرب النفسي من قارئه. نختار – ختاماً - هذه المقطوعة من نص (من مفكرة صعلوك)، كونها تختصر عوالم الفليّح وسماته الشعرية والنفسية: توضأتُ بالرمل عند ارتحالي/ تزودتُ بالتمر والنفط، كانت طيور الجزيرة/ رفوفاً مع الغيم والشمس تأتي/ رفوفاً رفوفاً/ مبللة تنحني فوق رأسي/ تمارس هجراتها المستديرة. توقفتُ، قلتُ، ارتحالي طويلٌ/ تفيأتُ ظلي ونمتُ/ وعقلي تفيأ ظل الشجيرةأفقتُ من النوم، نظفتُ عقلي/ وصارعتُ طعم النعاس، انتفضتُ/ تذكرتُ زحف الأفاعي الخطيرة/ لهذا تخوفتُ لما رأيتُ الطيور التي في أعالي الشجر/ تحدّ مناقيرها كي تعري الجذور الأخيرة.وواصلتُ سيري/ تفاءلتُ أني مشيتُ ولكن طير(المريعي) عصاني:/ «على العابرين التوقف»يحدّثُ وجهي انصلابُ السياج/ وبعضُ التخوم التي لا تضيءُتجاسرتُ ألغيتُ صمتي/ تنهّدتُ ملء الضلوع/ تجزأتُ حزناً/ تساقطن مني الدموع وجاءت رفوف القطا أيقظتني/ من الموت حزناًتطلّعتُ صوب الرفوف تفيأتُ ظل الجناح المرفرفْ.