الجماعات العابرة للأوطان!
هي تلك التنظيمات التي تكون ولاءاتها عابرة لحدود أوطانها ومجتمعاتها إلى كيان سياسي أممي عرف تاريخياً بنظام "الخلافة"، هذه الجماعات ترى نفسها جزءاً من كل أممي تحت مسمى "أمة الإسلام"، ولا يشكل "الإطار الوطني" الجامع للمواطنين أولوية تعادل أولوية "الإطار الديني"، ومن هنا لا نستغرب مقولة أحدهم "طز في مصر" وتفضيله أن يحكمه المسلم البعيد على جاره المواطن المسيحي القريب، كما لا نندهش من قلة احتفائهم بالنشيد الوطني وتحية العلم. اليوم وبعد المد الربيعي الذي أوصل إسلاميين إلى السلطة، هناك قلق متزايد على مستقبل الدولة الوطنية، فهذه الدولة التي نشأت قبل مئة عام، معرضة اليوم لتقويض أسسها المدنية، على أيدي هذه الجماعات التي لا تؤمن بهذه الأسس، ومن أبرزها: مفهوم "المواطنة" المتساوية والجماعة للمواطنين على تعدد انتماءاتهم الدينية والسياسية، إضافة إلى أنها لا ترى شرعية الكيانات الوطنية القائمة؛ لأنها كيانات مصطنعة رسم حدودها الاستعمار، وفي هذا يشاركهم القوميون الذين يرون في الدولة القطرية مشروع تجزئة استعمارية للدولة القومية، ومن هنا تسعى هذه الجماعات إلى تبني مشاريع من شأنها تفكيك كيانات الدول القائمة وصولاً إلى الكيان الإسلامي الأوسع عبر 3 معاول هدم للأوطان:
الأول: إضغاف "الوحدة الوطنية" عبر أسلوبين: تعميق "الطائفية" الدينية والمذهبية، وتضييق مفهوم "المواطنة" وقصره على المنتمين إلى الحزب والجماعة الدينية وإقصاء الآخرين من المواطنين: مسلمين وغير مسلمين، وهذا ما لاحظناه في حكم إخوان مصر في سياسة "الأخونة" و"التمكين" للأهل والعشيرة. إن كل الجماعات والتنظيمات التي تسعى إلى تهميش "المواطنة" إنما تكرس الانقسام الطائفي وتعمق الكراهية بين أبناء المجتمع الواحد، وتمهد للحرب الأهلية، وتدفع الأقليات الدينية إلى طلب حماية الخارج مما يعرض الدولة الوطنية لأخطار التدخل الخارجي.الثاني: السعي إلى إحياء نظام "الخلافة"، وهو حلم قديم لمؤسس جماعة الإخوان، الشيخ البنا، إثر سقوط الخلافة على يد أتاتورك 1923. والعجيب أن كل التنظيمات الدينية المعاصرة مازال يتملكها حنين جارف لعودة الخلافة بعد 90 عاماً من سقوطها! لقد أحدث هذا السقوط هزة نفسية عنيفة في العالم الإسلامي وتباكت المؤسسات الدينية والشخصيات والرموز الإسلامية في ذلك الوقت على انهيار الخلافة، وراحوا جميعاً يكتبون ويخطبون داعين إلى عودة الخلافة، وبُذلت محاولات عديدة لإحيائها لكنها لم تنجح. ولعلنا نتذكر كتاب "الإسلام وأصول الحكم" لعلي عبدالرازق في هذا السياق، جاء ليقول للمسلمين: إن نظام الخلافة ليس من أصول الإسلام، وإن القرآن والسنّة لم يحددا نظاماً سياسياً معيناً للمسلمين، وإن المسلمين إذا كانوا قد ارتضوا بهذا النظام قديماً، فذلك كان أمراً مقبولاً بمنطق العصور القديمة، حيث كان هناك الحكم الكسروي والحكم القيصري، لكن منطق العصر الحديث يفرض على المسلمين نبذ هذا النظام إلى غير رجعة. ومع تنامي حركات الجمعيات والجماعات الدينية في العقد السابع من القرن الماضي عادت الدعوة إلى الخلافة، وبخاصة على يد "حزب التحرير" لمؤسسه الفلسطيني النبهاني 1953، وهو حزب ينتشر في دول عربية وغربية ينادي باسترجاع دولة الخلافة كواجب شرعي على المسلمين جميعاً!فلا عجب أن يبشر "صفوت حجازي" على منبر رابعة بأن الخلافة قادمة وعاصمتها القدس في ظل الإخوان، ويصرح المرشد "محمد بديع" بأن حلم الشيخ البنا في عودة الخلافة قد اقترب، ويقف الشيخ الزنداني في اليمن مبشراً بأن الثورة اليمنية ما قامت إلا من أجل دولة الخلافة الراشدة!دعونا نتساءل: ما حقيقة نظام الخلافة الذي يتباكى عليه الإسلاميون؟! وهل يستحق هذا النظام هدم الدولة الوطنية القائمة؟! إن نظام الخلافة الذي ينادي الإسلاميون بعودته ما هو إلا نظام قهري يجمع فيه الخليفة كل السلطات، وقد امتد أكثر من ألف عام، ولم يجن منه المسلمون إلا جهلاً وفرقة وصراعات دموية، وكان عاملاً أساسياً في تخلف المسلمين، وتاريخ الخلافة- ما عدا الخلافة الراشدة وفترة عمر بن عبدالعزيز– ما هو إلا تاريخ من الظلمات بعضها فوق بعض، بل هو أبعد نظام عن مبادئ وقواعد الدين الإسلامي في العدالة والمساواة والحرية والتسامح، ولم تكن الخلافة في يوم من الأيام رمزاً لوحدة المسلمين كما يشاع عبر المنابر الدينية والتعليمية، بل كانت عاملاً أساسياً في تقسيم الدولة الإسلامية إلى دويلات متناحرة تحارب بعضها بعضاً، وقد وجدت في وقت واحد خلافات ثلاث: عباسية في بغداد، وفاطمية في مصر، وأموية في الأندلس، فهل مثل هذا النظام يستحق أن يبكي عليه أحد؟! الثالث: الاستقواء بالخارج: لا تتورع هذه التنظيمات والجماعات الدينية المسيسة من الاستقواء بالخارج وطلب دعمه وتمويله في سبيل الوصول إلى السلطة والاحتفاظ بها، هكذا فعلت وما زالت: حزب الله في لبنان، حماس في غزة، الحوثيون في اليمن، الإخوان في مصر، كل هذه الحماعات لولا الدعم الخارجي لما وصلت إلى السلطة ولما بقيت واستمرت مهيمنة على الشارع السياسي. من كان يتصور أن الإخوان – الجماعة الأم- الذين قامت عقيدتهم الدينية والسياسية على "معاداة الغرب وأميركا" هم اليوم يرتمون في أحضانهما ويتوسلون تدخلهما وضغطهما وقطع مساعداتهما عن مصر في سبيل إرجاعهم إلى السلطة؟! من كان يصدق أن أكبر رمز ديني منهم، قضى عمره كله خطيباً وداعياً محرضاً على أميركا (عدوة الإسلام والمسلمين) ومطالباً بمقاطعتها والجهاد ضدها في العراق وأفغانستان، يقف اليوم خطيباً يستجدي تدخلها في مصر لحماية جماعته من بطش الجيش المصري الأقل رحمة من الجيش الإسرائيلي، بحسب زعمه؟! يحرقون البلاد ويسيلون الدماء ويثيرون الفوضى والاضطرابات ويتسولون دعم الخارج ضد أوطانهم، وكل ذلك من أجل الحكم والسلطة! لا تفسير لهذا التحريض وهذه الخطط والفتاوى والاستجداءات إلا أن "الوطن" ليس أولوية لديهم!ختاماً: من هان عليه وطنه، هان عليه كل شيء، ومن باع وطنه باع كل شيء.* كاتب قطري