مع ارتفاع عدد الدعاوى القضائية، التي ترفع بمعدل ألف قضية يوميا، تثور جملة من التساؤلات: هل بات اللجوء إلى القضاء الوسيلة الوحيدة للحصول على الحقوق بعد أن غابت عادات التسامح؟ أم أن اللجوء إلى القضاء أصبح طريقا للعناد والندية ولدداً في الخصومة؟ أم تعكس كثرة اللجوء إلى القضاء ارتفاع الوعي القانوني من المواطنين والمقيمين لنيل حقوقهم القانونية؟

Ad

انتهج العديد من المواطنين والمقيمين طريق اللجوء إلى القضاء بعدما وجدوه الطريق الأصوب للحصول على حقوقهم إما لغياب نهج التسامح وإما لوقوعهم ضحية الغش والخداع في سلب حقوقهم بعد أن شاع العديد من المظاهر السلبية بين أفراد المجتمع وكان القضاء هو الملاذ الوحيد لهم.

ويلجأ النوع الثاني من المتقاضين إلى المحاكم للرغبة في إطالة أمد النزاع مع خصومهم واستغلال طريق القضاء الطويل في حسمها، وحتى بعد الوصول إلى طريق النهاية القضائية يتم استغلال الثغرات القانونية من أجل فتح طريق جديد لرفع دعاوى قضائية جديدة!

بدوره يقول أستاذ القانون الدستوري في كلية الحقوق بجامعة الكويت والخبير الدستوري في مجلس الأمة د. خليفة الحميدة ان الزيادة في عدد القضايا ترجع الى زيادة الوعي لدى المواطنين بإجراءات المحاكم وسهولة الوصول إلى القضاء، فضلا عن رغبة المتقاضين بحسم منازعاتهم أمام القضاء، لافتا إلى أنه يجب تفعيل الوسائل الاخرى لفض المنازعات كالوساطة والتحكيم وبهما سيخفف العبء الملقى على عاتق القضاء.

ويضيف الحميدة: ان الحل لمواجهة الارتفاع الكبير لعدد الدعاوى القضائية يكمن في زيادة عدد القضاة وفتح دوائر أكثر في المحاكم ذات الكثافة العالية من القضايا، وتشجيع اللجوء إلى التحكيم كالتحكيم القضائي وإصلاح ذات البين والوساطة. وإعادة الترتيب الإداري للجهاز القضائي كتقسيم القضاء على المحافظات لتتولى كل محافظة جميع أركان التقاضي والتنفيذ وفي كل الأحوال لا يصح الاتجاه إلى إصدار تشريعات تجعل من التقاضي أكثر صعوبة.

تحقيق العدالة

بدوره، يقول أستاذ القانون الجزائي في كلية الحقوق بجامعة الكويت د. فيصل الكندري إن استمرار تحقيق العدالة بأجهزتها وأنظمتها التقليدية وبعدد أشخاصها لهو سبب رئيسي في تراكم القضايا لدى المحاكم، خاصة مع زيادة عدد سكان الكويت من الكويتيين والأجانب.

ويضيف ان وجود محكمة مركزية واحدة هي قصر العدل، والتي انشئت في وقت تتناسب مع عدد القضايا لم تعد تستوعب اليوم الكم الهائل من القضايا، خاصة أنه مبنى أصبح متخلفا من حيث استيعابه لتلك القضايا أو من حيث التعامل التقليدي معها.

ويبين الكندري أن الطبيعي هو زيادة عدد القضايا بسبب الزيادة البشرية في الكويت، وتنوع ثقافات وبيئة غير الكويتيين، وطغيان الجانب المادي الذي أصاب هوس الأفراد، وتخلي الكثير عن ثقافة الصلح والتنازل بل أصبح القضاء ملاذ المتخاصمين بغياب ثقافة التسامح والتصالح.

لكن غير الطبيعي هو عدم مبادرة الدولة بالتفكير الجدي في إيجاد حلول لمشكلة تراكم القضايا وتضخمها يوما بعد يوم.

ويوضح «فليس حلا توفير المباني أو زيادة ساعات العمل للقضاة، بل الحل هو إيجاد ما هو معروف في الدول الأخرى بنظام التصالح والتفاوض مع المتهمين وتفعيل تطبيق نظام الأوامر الجزائية، ناهيك عن استخدام التكنولوجيا الحديثة في استقبال القضايا والإعلانات والجلسات وتنفيذ الأحكام وتحصيل المبالغ وكل ذلك يحتاج إلى أن تلتفت الدولة أولا إلى عمق المشكلة لإيجاد الحلول العملية والقانونية لتراكم القضايا وتضخمها يوما بعد يوم.

الوعي القانوني

من جانبه، يقول رئيس جمعية المحامين الكويتية المحامي وسمي الوسمي ان ارتفاع عدد القضايا من المواطنين ينم عن زيادة الوعي القانوني لديهم من اجل الحصول على حقوقهم الطبيعية التي رسمها لهم القانون في مختلف المجالات، وكنتيجة طبيعية لعدم إتفاق الأطراف في حل أي موضوع متنازع عليه يكون أمر القاضي وحكمه هو الفيصل بينهما حتى قديما كان الناس يلجأوون للقاضي لحل النزاعات التي تحدث بينهما ويكون أمره فاصلا بها.

ويضيف الوسمي قائلا ان اللجوء للقضاء وعلى الرغم من كونه حقا دستوريا كفله الدستور الكويتي والعديد من الدساتير العالمية لكونه الطريق السليم لنيل الحقوق إلا أن اللجوء إلى الطريق الودي لحل النزاعات وفق ماتعارف عليه المواطنون والمقيمون بحكم العادات والتقاليد هو طريق جيد ومنتج في كثير من الأحيان وخصوصا في أنواع محددا من النزاعات التي تحصل خصوصا النزاعات ذات البعد الاجتماعي أو الأسري والتي ترتبط ارتباطا كبيرا بالأسرة الكويتية.

ويوضح الوسمي أن اللجوء إلى القضاء يفضي إلى نتيجة مؤداها أن هناك رابحا للحكم وهناك خاسرا له ومثل تلك النتيجة طبيعية لحل أي نزاع إلا النزاعات الأسرية المرتبطة بأمور مشتركة كالأبناء بين الزوجين فستكون معلقة بينهما ومن الافضل حلها بعيدا عن القضاء وبالتراضي بين الطرفين وهو الأمر الذي يسلكه العديد من المتقاضين وما يحرص العديد من الزملاء المحامين على طرحه أمام الخصوم في هذا النوع من النزاعات.

ويبين الوسمي قائلا أن القضاء يحكم في العديد من النزاعات التي يجد أن هدفها تعطيل العدالة إما بالوقف أو تغريم أطرافها إذا لم يقدموا المستندات الداعمة للقضايا المقامة منهم، كما أن القوانين المنظمة تشترط في بعض الدعاوي اللجوء إلى طريق التظلم كالدعاوي الادارية أو حتى تقديم الشكوى إلى مكتب العمل كالدعاوي العمالية علاوة على سداد الرسوم القضائية كشرط لرفع الدعاوي القضائية.

المواثيق الدولية

من جانبه يقول أستاذ القانون الجنائي الدولي في كلية الحقوق بجامعة الكويت د. محمد بوزبر ان حق التقاضي يعد من أهم المبادئ الضامنة لحقوق الإنسان والمكفولة لكل إنسان تحترمه جميع الشرائع والقوانين السماوية والأرضية، وتؤكد عليه القرارات والمواثيق الدولية، ومنها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي نص على حق كل إنسان في محاكمة عادلة وعلنية أمام محكمة مختصة مستقلة ونزيهة مشكلة وفقاً للقانون، وقبل ذلك جعلت الشريعة الإسلامية التحاكم إلى الله ورسوله وشريعته شرطاً أساسياً للإيمان بالله قال تعالى: ‹›فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا›› (65) سورة النساء. ومن هذا المنطلق أكد الدستور الكويتى فى المادة (166) على أن: ‹›حق التقاضي مكفول للناس ويبين القانون الاجراءات والاوضاع اللازمة لممارسة الحق››، وحرمان الناس حرمانا مطلقا من اللجوء إلى القضاء بأية وسيلة من شأنه الإخلال بحقهم في الحرية وفي المساواة في التكاليف والواجبات والانتصاف وهي حقوق طبيعية كفلها النظام الأساسي للحكم. كما أن منع الناس من ممارسة هذا الحق يفتح الباب أمام اقتضائهم حقوقهم بأنفسهم ويقود إلى سيادة قانون الغاب بدلاً من سيادة حكم  القانون.

ولهذا فإن من واجبات الدولة أن توفر للعاجزين والضعفاء ما يعينهم على ممارسة حقهم في التقاضي إذا ما عجزوا عن ذلك، ومن باب أولى أن تتولى إزالة كل ما يعيق أو يمنع ممارسة الناس لهذا الحق المقدس المصون. وإذا ما تقرر هذا الحق الذي لا أظنه بحاجة لاحقا  إلى تقرير أو إثبات، أو إقناع من أي جهة كانت.

ويضيف: «ان رقابة القضاء هي دون غيرها الرقابة الفعالة التي تكفل للناس حقوقهم الطبيعية وحرياتهم العامة،  فإذا ما سعت  أي جهة حكومية  لتعطيل هذه الرقابة فإن ذلك دليل على رغبتها في العمل خارج حدود المشروعية، إذ لا يمكن أن تضيق ذرعاً برقابة القضاء وهي تسعى إلى المصلحة العامة وتتحرك داخل حدود المشروعية، وإن خطورة هذا المسلك أنه يفضي إلى إيجاد شريحة من المجتمع تشعر بالظلم والقهر، وتعتقد أنها مسلوبة الحق حتى في مجرد المطالبة أو الاعتراض لدى القضاء. وهذا بلا شك من أشد الأمور ضرراً بأمن المجتمع واستقرار الدولة».

ويبين بوزبر ان مبادئ الأمم المتحدة الأساسية بشأن استقلال السلطة القضائية والمعتمدة بقراري الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 40/32 في 29 (نوفمبر) 1985 ورقم 40/146 في 13 (ديسمبر) 1985 نصت في أحد بنودها على أن: «لكل فرد الحق في أن يحاكم أمام المحاكم العادية أو الهيئات القضائية التي تطبق الإجراءات القانونية المقررة، ولا يجوز إنشاء هيئات قضائية، لا تطبق الإجراءات القانونية المقررة حسب الأصول والخاصة بالتدابير القضائية، لتنتزع الولاية القضائية التي تتمتع بها المحاكم العادية أو الهيئات القضائية».

ويقول بوزبر انه يجب التفرقة بين المصادرة المطلقة لحق التقاضي عموما وتحديد دائرة اختصاص القضاء، وأنه لا يجوز من الناحية الدستورية حرمان الناس كافة من الالتجاء إلى القضاء للانتصاف، لأن في ذلك مصادرة لحق التقاضي، وهو حق كفله الدستور الكويتى كما تقدم، إذ تكون مثل هذه المصادرة بمثابة تعطيل وظيفة السلطة القضائية، وهي سلطة أنشأها وأقرها الدستور الكويتى لتمارس وظيفتها في أداء العدالة.

كما أن تقرير الحقوق للناس يفقد أي معنى وقيمة له إذا مُنعوا من المطالبة بهذه الحقوق عند حرمانهم منها أو اللجوء الى القضاء لحمايتها عند الاعتداء عليها، لأن من المقرر والمعلوم أن الحق يتجرد عن قيمته القانونية إذا لم يكن له دعوى تحميه.

ويضيف: «وفي المقابل لابد أن تتجلى ثقافة التسامح والعفو فى المجتمع الكويتى كإحدى أهم الضرورات الإنسانية والأخلاقية في الواقع المعاصر بعد أن انتشرت ظاهرة العنف وظاهرة هدّم العلاقات الإجتماعية على كافة الأصعدة وبعد أن أصبح الكبار والصغار على حد سواء أما ضحايا أو مجرمين بسبب هيمنة لغة العنف على الواقع المعاصر وغياب المثل والقيم الدينية والأخلاقية، الأمر الذي يجعل الفرد المعاصر يقف عند مفترق الطرق في التعامل مع الآخر الذي قد لا يتفق معه في أفكاره بل ربما يؤذيه ويلحق به أو بأسرته أو بأفكاره الأذى. قد يبدو الإنسان المعاصر حائراً في التصرف في المواقف الشائكة بعد أن أسهمت التربية الحديثة في حشو دماغه ورأسه بالمعلومات التي تضيع في زحمة الحياة والتي لا تعلمه مهارات التفاعل الاجتماعي الصحيحة وبالتالي يبقى جانب مبتور في جوانب التربية المعاصرة لكنه في نفس الوقت جانب حياتي إذ كيف ينطلق الفرد في رسم سلوكياته مع الآخر».

دراسة متعقمة

يقول الكاتب د. ساجد العبدلي انه «لا يمكن الجزم بالسبب أو الأسباب الداعية لتزايد ظاهرة لجوء الناس للقضاء مؤخرا لرفع الدعاوى، فمثل هذا الأمر يتطلب بالضرورة دراسة متأنية ومتعمقة وفقا لأسس احصائية سليمة، ولكن يمكنني أن أتخيل أن وعي الناس بأهمية «مؤسسة القضاء» وسهولة الوصول إليها قد تزايد في السنوات الأخيرة، ولذلك تزايد إقبالهم عليها لتثبيت مطالبهم وتحصيل حقوقهم، ولعلي أستطيع القول أيضا أن الأمر مرشح للتزايد أكثر كلما تطورت وتسارعت العجلة الإدارية في مؤسسة القضاء، وأعني بذلك أن تصبح مدد التقاضي أقصر والوصول إلى الأحكام النهائية أسرع وأن تصبح الاجراءات أكثر بساطة وسهولة.

وكذلك من الأسباب التي قد تكون أدت إلى زيادة أعداد القضايا المنظورة أمام القضاء، وهو أمر يحتاج إلى استقصاء وتحقيق، هو أن المجتمع الكويتي آخذ في النمو من الناحية الحجم والنوع، فعدد السكان قد تزايد، ونوعيات البشر قد تزايدت أيضا، وتزايدت معها هيئات وأشكال الأعمال والمعاملات بين الناس، الأمر المعرض بطبيعة، الحال للتعامل مع مؤسسة القضاء بين حين وآخر.