في اليمن ركبتُ سيارة الإمام البدر وتركتها من أجل السادات 5 - 10

نشر في 30-01-2014 | 00:01
آخر تحديث 30-01-2014 | 00:01
 الإعلامي الكبير حمدي قنديل يروي ذكرياته: «عشت مرتين»

يستكمل الإعلامي العربي الكبير حمدي قنديل سيرته الذاتية في الحلقة الخامسة، حيث وصل إلى محطة عدن وتجوّل في عواصم عربية عدة أخرى، ميزت سيرته الحافلة باللقاءات والمشاركات المهمة في أحداث عصره، خلال النصف الثاني من القرن العشرين، حتى العقد الأول من القرن الحالي.

ويروي كيف نشبت حرب اليمن التي اندلعت في أعقاب إطاحة حكم "آل حميد الدين"، ويتحدث عن سفره في السنوات الأولى للثورة لإجراء عدد من اللقاءات مع القوات المصرية والمسؤولين اليمنيين، وينتقل بعدها للكشف عن تفاصيل زيارته الأولى إلى العاصمة العراقية بغداد، عقب انقلاب 1963، الذي أطاح الرئيس عبدالكريم قاسم.

في صباح يوم 26 سبتمبر 1962، أذيع نبأ حدوث انقلاب في اليمن "السعيد" بقيادة الزعيم (العقيد) عبدالله السلال ومقتل الإمام محمد البدر، خلال قصف قصر البشائر (قصر الحكم) في صنعاء وقيام نظام جمهوري في البلاد.

كانت إذاعة "صوت العرب" هيَّأت الأذهان لحدوث الثورة، ودعت قبل أشهر الشعب اليمني للانتفاض ضد الإمام أحمد حميد الدين، وقبل الثورة بأسبوع واحد فقط، كان قد أعلن في اليمن وفاة الإمام أحمد الذي حكم البلاد لنحو ثلاثين سنة، ولم يعرف أحد على وجه الدقة كيف مات، بل إن الكثيرين شكَّكوا في أنه مات قبل إعلان وفاته بيوم واحد كما زعم ابنه الإمام البدر، والأرجح أن هذا كان قد حدث قبل ذلك بفترة، وأن الإمام البدر الذي كان ولياً للعهد عندئذ أرجأ إذاعة الخبر حتى يتمكن من ترسيخ سلطته أولاً.

السلال نجيباً

بدأت معارك الإذاعة بين البلدين (مصر واليمن) عندما بث راديو صنعاء في بداية سبتمبر 1961 هجوماً شديداً على عبدالناصر في قالب قصيدة شعرية من 64 بيتاً من تأليف الإمام أحمد حميد الدين، ولم تمضِ أسابيع حتى كال عبدالناصر للإمام الصاع صاعين في خطبة الاحتفال بعيد النصر.

كان الإمام أحمد يحتفظ بمفتاح الإذاعة في خزانته الخاصة، وكان المهندس المختص يأخذ منه مفتاحها كل يوم ليفتتح الإرسال ثم يعيد المفتاح إليه بعد ذلك، وكانت مواعيد الإرسال تعتمد على مزاج الإمام وعلى ارتباطاته ومواعيده.

كان عبدالله جزيلان مدير الكلية الحربية ومدرسة الأسلحة هو الذي خطط للهجوم على قصر البشائر، وزود بعض الفصائل التي شاركت في الثورة في صنعاء بالسلاح.

وكان المتوقع من الإمام البدر أن يستسلم إذا ما حاصرت القوات القصر، لكنه أمر الحرس بإطلاق النار على المهاجمين، وأوفد قائد الحرس الزعيم عبدالله السلال للتفاوض مع الثوار، فأعلن انضمامه لهم ونصَّبوه قائداً عاماً للقوات المسلحة باعتباره صاحب أكبر رتبة عسكرية (هكذا يمكن اعتباره نجيب الثورة اليمنية إذا ما قارنا الوضع بالثورة في مصر).

وفي حين أعلنت الإذاعة مقتل البدر في الهجوم، كان قد تسلل عبر سرداب تحت القصر في ملابس أحد الحراس، وهرب في اتجاه السعودية.

استولت "حركة الضباط الشبان" على حامية قصر البشائر وعلى صنعاء على الفور، ولم تستخدم في ذلك سوى 13 دبابة و6 مدرعات وبضعة مدافع منها اثنان مضادان للطائرات، وكذلك سيطرت في الوقت نفسه على حامية كل من تعز والحديدة.

وكانت كل من السفارة المصرية والبعثة العسكرية المصرية في اليمن على صلة وثيقة بالضباط الشبان، وعلى دراية بالتحضير للثورة ثم بتوقيت إعلانها، ومع ذلك فعندما قامت الثورة أرسل السلال إلى القاهرة برقية نصها: "تسلم فوراً إلى قائد العروبة سيادة الرئيس جمال عبدالناصر. نبلغكم بقيام الجيش بإعلان الثورة والإطاحة بحكم آل حميد الدين".

في اليمن الثائر

 في أول أكتوبر سافرنا بطائرة إلى اليمن، كنا مع عدد من كبار ضباط الجيش الذين ذهبوا في البداية لتقدير الموقف، ورسم الخطط اللازمة قبل أن تبدأ قوات الصاعقة وغيرها سفرها في اليوم التالي إلى كل من صنعاء وتعز، كانت طائرتنا متجهة إلى صنعاء، وكان مهبط الطائرات في المطار مجرد طريق ممهد بالكاد، ولا أعتقد أنه كان مرصوفاً بالأسفلت، وكان يجاوره كشك صغير لابد أنه برج المراقبة.

كان تدبير أمور معيشتنا وترتيبات عملنا أمراً صعباً خصوصاً ما يتعلق بوسائل النقل، وقد نصحني محمد عبدالواحد؛ المسؤول الوحيد في السفارة في ذلك الوقت، أن أتوجه إلى "الزعيم" السلال شخصياً، ولم تكن هناك صعوبة في تحديد لقاء معه في اليوم التالي.

قال السلال إنه للأسف لا توجد سيارة يمكن الاستغناء عنها لدى الحكومة، وأن أسرع حل أمامه أن يخصص لي سيارة الإمام البدر.

عندما لاحظ ترددي قال: "هذا هو الحل الوحيد لديَّ الآن"، وهكذا لم يكن أمامي سوى القبول شاكراً، وقد نبهني يومها إلى أنه لا يمكننا الحصول على بنزين للسيارة إلا بتوقيعه شخصياً، لكن تلك لم تكن أسوأ مفاجأة.

المفاجأة الأسوأ كانت عندما تسلمت السيارة، وكانت سيارة أميركية فارهة من أحدث طراز في شركة "شيفروليه" على ما أذكر، وكانت لافتة للنظر إلى حد بعيد؛ لذلك كنت أحاول تفادي ركوبها كلما استطعت.

عندما حضر أنور السادات إلى اليمن لتوقيع اتفاقية التعاون العسكري بين البلدين، سلمت السيارة لمكتبه؛ إذ لا يليق أن يتحرك مسؤول مصري في مكانته بسيارة متواضعة في حين أركب أنا شيفروليه، وتسلمتها عند سفره.

إنهاك القوات

عندما تحركت مع الوحدات المقاتلة خارج صنعاء كان القتال لايزال حاميا بين الملكيين والجمهوريين، وتوسعت ساحة المعركة في أنحاء متفرقة في اليمن، وكان السعوديون لا يكفون عن التدخل بالمال والسلاح، لكن البعض أخذ على القيادة العسكرية المصرية والسفارة المصرية هناك أنهما أيضا قاما بتوزيع أموال على رجال القبائل لشراء ولائهم.

كان اليمن مجاهل لم يكتشفها المصريون من قبل، ولم تكن هناك خرائط طبوغرافية يمكن الاستعانة بها في العمليات العسكرية، وكانت طبيعة الأرض الجبلية مختلفة تماماً عما ألفه المصريون، وقد أنهك ذلك القوات الجوية كما أجهد القوات البرية وواجه الضباط والجنود متاعب عديدة في التعامل مع اليمنيين الذين لا يعرفون طبائعهم وعاداتهم، وكذلك في التأقلم مع المناخ، خصوصاً عندما تتباين درجات الحرارة بين النهار والليل أو بين مناطق الجبال والوديان.

طائرة سعودية

حدثت مفاجأة كبرى في أوائل أكتوبر؛ إذ أرسلت السعودية طائرة تحمل عتاداً عسكرياً إلى القوات الملكية في اليمن، ولكن قائد هذه الطائرة توجه بها إلى مطار أسوان.

وجهت الخارجية السعودية عندئذ خطابا إلى مصر تطلب إعادة الطيارين والفني الذي كان يصاحبهما إلى الرياض باعتبار أنهم فارون من الخدمة العسكرية، لكن مصر تجاهلت الخطاب وأعادت شحن العتاد إلى قوات الثورة في اليمن.

في نهاية أكتوبر، كانت قوة الجيش المصري في اليمن كلها تكاد لا تزيد على ألفي جندي، وكان عبدالناصر معارضا في البداية للتوسع في التدخل العسكري، رغم انه كان يود أن يستعيد مكانته بعد انفصال سورية عن دولة الوحدة، وأن يساند الثوار في اليمن الجنوبي، ليؤكد زعامته للأمة العربية.

«فيتنام مصر»

وكانت هناك أفكار بالاعتماد على متطوعين، ليس من مصر فقط وإنما من دول عربية أخرى، لكن المشير عامر كان يضغط، كما فهمت، لدخول مصر بثقلها حتى تستطيع أن تسيطر على منافذ البحر الأحمر من باب المندب في الجنوب حتى قناة السويس شمالا، وتغلبت وجهة نظره في النهاية، وأجمع المجلس الرئاسي في القاهرة على الحملة العسكرية، فبدأت ألوف أخرى في التدفق.

وعندما تحسن الموقف العسكري في نهاية أبريل 1963، نصح اللواء أنور القاضي قائد القوات المصرية في اليمن بعودة الجانب الأكبر من قواته إلى مصر، خصوصاً ان الجيش اليمني كان قد بدأ بناؤه، كما أن عدداً من الجبهات كان قد هدأ.

وبدأت القوات تعود إلى مصر بالفعل وتقام الاحتفالات لاستقبالها، إلا أن الموقف سرعان ما تبدل فتورطت القوات المصرية في وحل اليمن مرة أخرى حتى أن المراقبين الأجانب سموها "فيتنام مصر"، ويقال إن عدد القوات وصل إلى ذروته في منتصف عام 1965 عندما بلغ 70 ألفا، بقي جانب منهم هناك حتى ما بعد انتهاء نكسة 1967.

أما أنا فكنت قد عدت إلى القاهرة مع بداية 1963.

انقلاب

في 8 فبراير 1963 دق جرس الهاتف في بيتي، وكان المتحدث د. حاتم... قال: "تعلم أن انقلاباً تم في العراق... اليوم تذهب إلى السيد سامي شرف، وتنفذ ما يقوله لك"... ذهبت إلى سامي شرف فقال إن وفدا إعلاميا مصريا سيسافر في اليوم التالي إلى بغداد، وإنني سأكون ضمن هذا الوفد مع مصور أختاره، ولكن وجود المصور معي سيكون للتعمية حتى نوحي بأن المهمة هي تغطية الأخبار... "مهمتك الأولى هناك هي إقناع المسؤولين بإذاعة إنتاج التلفزيون المصري على شاشة بغداد... طبعا لن تقول ذلك صراحة... اعمل ما تراه مناسبا، وإذا احتجت إلى مساعدة اتصل بفخري عثمان السكرتير الثالث بالسفارة".

وأردف ان الدكتور حاتم سيتابع تنفيذ المهمة، وأن الطريقة الوحيدة للاتصال به هي إملاء الرسائل في مكتب الملحق العسكري، حيث ترسل بالشفرة من هناك... في اليوم التالي تجمَّع في حديقة مكتب معلومات الرئاسة في منشية البكري وفد الصحافيين المصريين، وأعطاني سامي شرف مظروفاً صغيراً به رسالة توصية موجهة منه إلى فخري عثمان السكرتير الثالث في السفارة.

في بغداد

عندما وصلنا بغداد 10 فبراير كان إطلاق النار لايزال مسموعا بوضوح في بعض شوارع العاصمة العراقية التي كانت تعج بالدبابات والمصفحات المجهزة بمدافع الماكينة، خصوصا في منطقة ميدان "باب المعظم"، حيث توجد وزارة الدفاع التي كانت معقل عبدالكريم قاسم، وكان قاسم قد أعدم مع ابن خالته رئيس محكمة الثورة العقيد عباس المهداوي في استوديو التلفزيون الذي نقلا إليه تحت الحراسة في اليوم السابق لوصولنا.

وضعنا حقائبنا في غرفتنا بالفندق، وانطلقت مع زميلي المصور رشاد القوصي إلى وزارة الدفاع... كانت بقايا المعارك لاتزال تدور هناك، وكانت هناك سيارة "جيب" تربط خلفها ضابطاً من الموالين لقاسم وتسحله على الأرض... وعندما اقتربنا من وزارة الدفاع دخلنا مرمى النيران المتبادلة التي كادت تفتك بنا، وكانت النيران لاتزال مشتعلة في جانب من الوزارة بدا كما لو كان قد حطم تماماً، وأمامه مظاهرة محدودة لمجموعة من البعثيين تهتف بسقوط الشيوعية.

حادث غامض

كانت الأوضاع حينئذ قد بدأت تستتب، وبدأت القيادات الجديدة البعثية والقومية تتولى إدارة مؤسسات الدولة... كانت الإذاعة والتلفزيون من نصيب عبدالستار الدوري، وهو قيادي بارز في فرع حزب البعث في بغداد، وعندما تولى مسؤوليته الجديدة لم يكن قد دخل التلفزيون من قبل... عندما ذهبت إليه استرحت له ويبدو أنه استراح لي كذلك، وتوطدت العلاقة بيننا بسرعة حتى انني خاطرت وصارحته في اللقاء الثالث بيننا بمهمتي، فقال بحماس ظاهر: "عز المنى... أنا في الانتظار".

هكذا ذهبت إلى مكتب الملحق العسكري لأبلغ الدكتور حاتم بالنبأ، وأطلب منه إرسال ما يريد من برامج... كان الملحق العسكري المصري في بغداد في ذلك الحين هو العقيد عبدالمجيد فريد الذي أصبح في ما بعد سكرتيراً عاماً لرئاسة الجمهورية في القاهرة، أما مساعده فكان المقدم السوري طلعت صدقي الذي كنت قد التقيته قبل سنوات في دمشق، لكن كليهما كان قد طرد من العراق.

كانت العلاقات المصرية العراقية قد توترت أيام حكم قاسم الشيوعي إلى حد بعيد، وكانت سفارتنا في بغداد مقصداً معتاداً للتظاهرات المعادية، وهكذا فعندما تولى عبدالسلام عارف الرئاسة تنفست القاهرة الصعداء رغم ان حزب البعث العربي الاشتراكي هو الذي كان له الدور الأبرز في الانقلاب... ولم تكن أيام عارف كلها مريحة بالنسبة إلى مصر؛ إذ نجح البعثيون في السيطرة عليه وزحزحته عن القوى القومية الأخرى حتى مقتله في 1966، إثر سقوط طائرته الهليكوبتر في حادث غامض.

مفاجأة القاعة المظلمة

في اليوم التالي اتصل بي مكتب الملحق العسكري لإبلاغي أن رد الدكتور حاتم وصل، ولما اطلعت عليه كدت أقفز من السعادة لأن المواد ستصل بعد 24 ساعة من القاهرة في طائرة مصر للطيران... أبلغت الدوري الذي لم يكن أقل ابتهاجا، وأصدر أوامره بإعداد قاعة عرض خاصة حتى أعود من المطار لنشاهد معا ما أرسلته القاهرة، وعندما عدت بالصندوق الذي يحتوي على الشرائط أطفئت أنوار القاعة، وجلست إلى جانب الدوري وحدنا... كانت المفاجأة عندما بدأ العرض... كان أول ما شاهدناه أغنية "ناصر كلنا بنحبك"... يا للغباء، دعاية سافرة على هذا النحو، هكذا قلت لنفسي، لكن المصائب تتالت بعد أن شاهدنا ثلاثة شرائط أخرى كانت كلها أفلاما تسجيلية عن عبدالناصر وثورته... اعتذرت للدوري... قلت إن خطأ ما لابد أنه حدث، وانني سأبلغ القاهرة على الفور، وكنت واثقا من أن الأمر سيتم تصحيحه على نحو السرعة.

رسالة المساء

هكذا عدت ثانية إلى مكتب الملحق العسكري، حيث كتبت رسالة سريعة إلى الدكتور حاتم بأسلوب تلغرافي: "وصل الطرد... الشرائط التي شاهدتها مع مدير الإذاعة والتلفزيون كلها تتحدث عن سيادة الرئيس وعن الثورة بشكل مباشر، وربما مستفز للمسؤولين البعثيين هنا... أرجو تفضلكم بإرسال مواد أخرى تحمل الرسالة الإعلامية التي نريد إبلاغها تدريجيا... احترامي".

لم يأخذ الدكتور حاتم وقتا طويلا في الرد على رسالتي؛ إذ جاءت لي منه رسالة في المساء، وعندما استدعاني مكتب الملحق العسكري لتسلمها وجدتها مختصرة تماما وواضحة جدا: "يحضر حمدي قنديل إلى القاهرة، ويحل محله ممدوح زاهر (كبير مندوبي الأخبار)، ولا ينتظر حمدي وصول ممدوح"، وهكذا عدت إلى مصر في اليوم التالي.

الحجر الصحي

في مطار القاهرة انتظرتني مفاجأة أخرى، انني لم أحقن بلقاح ما كان علي أن أتناوله قبل سفري من بغداد، أو هكذا أبلغني الرجل الذي قادني إلى الحجر الصحي... اتصلت بمكتب الدكتور حاتم لأحيطهم بالمشكلة لكن أحداً لم يتحرك.

حاولت الاتصال بالدكتور النبوي المهندس الذي كان وزيراً للصحة، لكن منزله أبلغني أنه يحضر حفل أم كلثوم، وكان اليوم بالفعل يوم خميس؛ فاضطررت إلى الاستسلام للحجر الصحي حتى انتهى بعد أيام، وعندما ذهبت إلى الدكتور حاتم في مكتبه انتظرت ساعات وساعات، يوما بعد آخر دون أن يأذن بالمقابلة على غير ما اعتدت.

بعد نحو أسبوع استقبلني الوزير، وما إن دخلت مكتبه حتى قال: "يعني تفضحنا كده عند الرئاسة"... سألت: "فضيحة إيه يافندم... رئاسة إيه يا فندم؟"... قال: "ألا تعرف أن البرقيات من مكتب أي ملحق عسكري تمر بالرئاسة أولا، وهي التي توزعها بعد ذلك على أصحابها؟".

قلت إنني لم أعرف ذلك من قبل، وتعليمات السيد سامي شرف تقضي بأن أوجه رسائلي من مكتب الملحق... "طيب اتفضل دلوقتي"... عاد الدكتور حاتم بعد أيام فأبلغ إدارة الأخبار بالسماح لي بقراءة النشرات، بعد أن عوقبت على فضح الإعلام لدى الرئاسة... كانت هذه حكاية زيارتي الأولى للعراق.

إعدام العراف

بعد أن سجلت رسائلي الأولى مع وحدات الصاعقة التي قدمت إلى اليمن، بدأت أجري أيضاً أحاديثَ مع شخصيات يمنية، لعل أطرفها كان الحديث مع محمد حلمي العراف الخاص بالإمام الذي كان يلقب بالفلكي، وكان الإمام لا يقدم على قرار أو يتحرك إلى مكان قبل أن يدله ماذا تقول النجوم في ذلك.

يومها قال لي إن حسابات الفلك كانت قد أكدت له أن ثورة ستقوم في اليمن، ولكنه خشي أن يبلغ الإمام أحمد حتى لا يأمر بحبسه أو إيذائه، وقد صدر حكم بإعدام حلمي بعد الثورة بتهمة الفساد، وسجن في تعز انتظاراً لتنفيذ الحكم، وأفرج عنه قبل تنفيذه.

السادات والجن الأزرق

حضرت إحدى جلسات السادات خلال زيارته إلى اليمن، وكان يجلس مع بعض شيوخ القبائل اليمنية، ويبدو أن الحديث كان يدور قبل دخولي عن تدخل الإنكليز في حرب اليمن، وعن ذكريات السادات عندما كان يشارك في المقاومة ضد القوات البريطانية في القناة أثناء احتلالها لمصر، أذكر أنه قال: "أنا بإيدي خلصت على أذنابهم في مصر، وكمان دوختهم في معسكراتهم في القناة... كل يوم آجي لهم من حتة.. دوخيني يا لمونة كده" (ربما كان يقصد اتهامه بالاشتراك في مقتل الوزير الوفدي أمين باشا عثمان رئيس جمعية الصداقة المصرية- البريطانية في عام 1946)، وكان يستخدم يده كما لو كان يعصر بها شيئاً.

التفت إلى الشيوخ فلمحت في عيونهم نظرة دهشة؛ ربما لأنهم لم يستوعبوا تماماً ذلك التعبير الغريب على آذانهم، ويبدو أن السادات انتبه إلى ذلك فاعتدل في كرسيه، وقال: "يعني إنكليز دخلوا الحرب، الجن الأزرق دخل الحرب، أنا بأقول لكم، أنا مش سايب كرسيّه ده إلا لو طلعوا الإنكليز من عدن، يعني مابنخافشي من الإنكليز، ولا إنتو حتخافوا من الإنكليز ولا من الجن الأزرق"، عندئذ هلل واحد من الشيوخ، ورفع رشاشه بيده، فأخذ السادات يكرر: "يعني اطمنوا... اطمنوا تمام".

back to top