جميلات ... في ملفات القضايا (11): تمرد بائعة الجرائد يقودها إلى الإعدام

نشر في 09-07-2014 | 00:02
آخر تحديث 09-07-2014 | 00:02
No Image Caption
معاناة مع الفقر ثم مواجهة مفتوحة مع الحياة... هكذا يمكن تلخيص قصة شاهيناز الفنانة المعروفة وسيدة الأعمال المشهورة، التي بدأت حياتها في أحياء القاهرة العشوائية منسيةً كملايين البشر، قبل أن تنتقل إلى الطبقة المخملية وتصاحب الأغنياء، فتتحول إلى نجمة سينمائية، لتدوس ماضيها. لكنه ظل يطاردها في صورة زوجها الأول فتحي الغلبان، قبل أن يقودها القدر إلى لقاء مع عشماوي، بعد الحكم عليها بالإعدام، فكانت بحق نجمة هوت قبل الأوان.
كانت يوماً ما من سيدات الأعمال اللاتي يكرهن الأضواء والشهرة، لا ينقصها مال ولا جمال، لكنها فضلت الظل على الأضواء، لذلك لم يعرف أحد لها أصلاً أو فصلاً، إلا اسمها: {شاهيناز}. لكنها فجأة دخلت بؤرة الضوء مع دخولها قفص الاتهام، عندما ترافع عنها كبار المحامين، إلا أن ذلك لم يمنع صدور الحكم بإعدامها، واقترب بشدة موعد لقائها مع عشماوي؛ الاسم السري لكل من ينفذ حكم العدالة في المتهمين بالإعدام، وذات مساء فتش ضابط مباحث السجن زنزانة شاهيناز، بعد بلاغ من إحدى النزيلات، والغريب أن المضبوطات التي لم تنكر بطلة قصتنا حيازتها لم تكن سوى خاتم زواج ذهبي وزجاجة تحتوي على بقايا عطر.

قابلتُها بعد انتهاء التحقيق معها، وقبل أيام من تنفيذ حكم الإعدام فيها، لم ترفض حواري معها بشرط وحيد ألا ألتقط لها أي صورة وألا يتم النشر إلا بعد إعدامها. لم يكن أمامي إلا إغلاق عدسة الكاميرا، والانتباه لكل ما ستقوله.

سألتها في البداية عن الحزن الشديد الساكن في عينيها بعد تفتيش زنزانتها، وهي التي لم تحزن ولم تدمع عيناها يوم صدر الحكم بإعدامها، هل كان خاتم الزواج وبقايا العطر أهم من حياتها؟! أجابتني بهدوء شديد:

*إذا أردت أن تعرف أصل الحكاية فلا تقاطعني.

- اتفقنا.

قالت شاهيناز: {فتحي أول رجل دق له قلبي. كنت صغيرة فرحة بالحصول على الشهادة الإعدادية، وشطح بي الخيال، وتمنيت لو أصبحت طبيبة أطفال مشهورة. كان مطلوب مني أن أخرج كل يوم للبحث عن عمل كي أساعد أمي وأسرتي، لكني كنت أعود دائماً خالية الوفاض، لا يعزيني في همي سوى فتحي ابن بائع الجرائد في الحي الذي أسكنه. كنت أحب أن أسمع منه عباراته التي يستقبلني بها كلما وجدني مهمومة وحزينة: {يا بت إنتي حلوة زي القمر... صعبان عليّ أشوفك مكسورة كدة}.

حب إلى الأبد

 كنت أحبه وأحلم بالزواج منه، وكان يحبني بجنون ويحميني من مطاردات وغزل شباب الحي الأغنياء. كنا نعتقد أنه حب إلى الأبد، وكثيراً ما كان يتشاجر مع والده بائع الجرائد العجوز، كلما يكتشف الأب أن غالبية الجرائد والمجلات والكتب قد سربها ابنه لي كي أقرأها وأعيدها. كنت  شغوفة بالقراءة في المجالات كافة وأنا في هذه السن المبكرة، كانت تستوقفني صور الفنانات على أغلفة المجلات، ولكني كنت أتابع أيضاً أخبار المجتمع كافة، الخبر الذي لا أفهمه كنت أسأل عنه فتحي. كان هو أيضاً مولعاً بالقراءة والثقافة، لم تكن لقاءات الحب بيننا تشهد غير حوارات ونقاش لا ينتهي، لم يحاول أن تلمس يده جسدي مرة واحدة، رغم أنني لم أكن مستعدة للمعارضة أو المقاومة، فأنا في حالة حب. لكن متعة الحوار كانت لا تفوقها أي متعة أخرى.

كان فتحي حاصلاً على دبلوم تجارة، ويعمل موظفاً في مصلحة البريد، مرتبه ضئيل، ووالده {على قد حاله}، رغم ذلك أصر فتحي على طلب يدي ومنعني من متابعة رحلة البحث عن عمل. لم أكن أملك من الدنيا غير خاتم من الذهب ثمنه ثلاثون جنيهاً، أهدته لي أمي عندما نجحت في الإعدادية، اشترته ليّ من {الجمعية} التي قبضتها وكانت تنوي أن تدخر مبلغاً لشراء كفن يسترها في آخر يوم لها فوق الأرض. وكان فتحي لا يملك من الدنيا  غير حب أبيه، فهو الابن الوحيد المدلل، لا يرد له طلباً ولا يعصى له أمراً، حتى عندما أصر فتحي على أن يتزوجني ونعيش معاً في بيت والده، اضطر الأب إلى أن يرضخ في النهاية.

كانت أول وأعظم ليلة زفاف في حياتي، أغلق فتحي باب الحجرة التي لم تكن تحتوي إلا على خزانة صغيرة، وسرير قديم، ومرآة دائرية فوق الحائط تنقل في {بانوراما} غريبة أحداث الحجرة كافة التي تغطي أرضيتها سجادة ممزقة موصولة بالرقع الملونة، السعادة قد تعيش في مكان مثل هذه الحجرة، لا تشترط القصور والخدم وبطاقات النقود، في تلك الليلة دار حوار سريع وهامس بيني وبين فتحي لن أنساه ما حييت:

• الليلة بس... هأقولك على أكبر سر.

* أنت مخبي عني حاجة ولا إيه يا فتحي؟

• كنت خايف عليك من الغرور يا حبيبتي.

* سر إيه بقى؟

• أنتِ أجمل ست في الدنيا، لا أنا ولا أعظم مني مليون مرة يستأهلك، عارفة لو بإيدي كان يبقى مهرك مال الدنيا كله، مش فستان بخمسين جنيه زي اللي جبتهولك ده.

أخذتهُ بين ذراعي للمرة الأولى، أحسستُ بجسده يرتجف، همست له أنه في نظري أعظم ملك فوق الأرض، وأن قلبه هو كنوز الدنيا، وأنني أحسد نفسي على زواجي منه. ظلت حلاوة الليلة الأولى تعميني عن الواقع الأليم: أمي مريضة لا تجد ثمن الدواء، أشقائي لا يجدون تكاليف المدرسة الابتدائية، زوجي يحاول قدر جهده أن يوفر لي حياة كريمة، لكن التحديات والأزمات كانت تقصم ظهره يوماً بعد آخر، خصوصاً بعدما مات أبوه بعد عام واحد من زواجنا، ولم يجد محل الجرائد الصغير من يرعاه غيري. دخله هو أيضاً من وظيفته الحكومية  لم يعد يغطي نفقاتنا بعدما افتتح أحد شباب الحي مكتبة كبيرة لجميع أنواع الصحف سحب بها البساط من تحت أقدامنا.

فقر وتمرد

كنت واثقة من أن الفقر لا يقتل الحب ولكن يصيبه بالكساح. ضرب الفقر ضربته فبدأ طعم الحب يفقد حلاوته يوما بعد آخر، عقلي كان متيقظاً يفكر في مرض أمي وأخوتي الصغار وبيتي الذي لا يحتوي على عشرة جنيهات لمواجهة أي أزمة طارئة، ولا معنى للحب كلما تيقظ العقل. ذات يوم قدم لي أحد الزبائن نفسه بعدما اشترى بعض الصحف. كان منتجاً سينمائياً عرض عليّ أن ألتحق للعمل سكرتيرة في مكتبه، أخبرني أنه سيمنحني مئتي جنيه كمرتب شهري، طار عقلي مع المبلغ الذي سمعته، ولمعت عيناي، خصوصاً حينما أخبرني أن وجهي {فوتوجنيك}، وقد يصلح لإسناد بعض الأدوار السينمائية إليّ، ويبدو أن الرجل أحس بارتباكي فوعدني بالحضور مرة أخرى.

ظللت أقنع فتحي عندما عاد من عمله حتى وافق على مقابلة الرجل. كنت أحلم بالمرتب وفرصة الظهور في السينما ولو في دور {كومبارس}. لم أنم لثلاث ليال كاملة حتى حان موعد اللقاء. كان الرجل لطيفاً للغاية مع فتحي، بل طلب منه أن يخرج من عمله عصر كل يوم ويأتي للعمل فترة أخرى في مكتب الإنتاج ثم ننصرف معاً أنا وهو. وافق زوجي، وليته ما وافق. أيام قليلة، وبدأت رحلة التمرد على زوجي.

تمردت على الحجرة الصغيرة، وموقد {الكيروسين}، واللحم المستورد الذي نشتريه كل أسبوع من الجمعية. حاول فتحي أن يذكرني بحياتنا القديمة قبل الالتحاق بهذه الوظيفة، لكن ما كان يبنيه في الفترة المسائية كان يهدمه المنتج وأصدقاؤه المشاهير في الفترة الصباحية. حتى كان الصدام. طلب المنتج أن يختبرني في الرقص لأنه يفكر في إسناد دور لي في فيلم سينمائي ينتجه، عارض فتحي بشراسة، فكذبت عليه للمرة الأولى، ونفذت الاختبار في الفترة الصباحية.

 كان الاختبار أصعب مما تخيلت، كان عزائي الوحيد أنني فعلا وقفت أمام الكاميرات، وسجلت أول دور سينمائي ليّ.

علم فتحي بما حدث، امتدت يده تضربني للمرة الأولى، أخرجني من المكتب، ملأته الشكوك، ولعبت به الظنون، ترك عمله الحكومي بعدما فصلته مصلحة البريد لغيابه المستمر من دون إذن. ثم طلبت الطلاق بعد المكالمة التليفونية الوحيدة التي استطعت الرد عليها وفتحي نائم، اتصل بي المنتج الكبير في محل الخردوات المجاور لمنزلي، أسرعت كالريح إلى سماعة التليفون، قال ليّ إن الحل الوحيد هو الطلاق.

رفض فتحي الطلاق، هدده البلطجية الذين يحرسون المنتج، رفض التهديد، إلا أنهم نفذوا وعيدهم، اصطادوه في أحد الشوارع المظلمة، كمموا فمه، خطفوه في سيارة جيب، خدروه حتى وصلوا به إلى مكان مهجور، كسروا عظامه، أسالوا دماءه، شطروا وجهه، وشقوا بطنه، تركوه بين الحياة والموت. أنقذه الأطباء بمعجزة ولكن بعدما تركته الحادثة مشلولاً. لم يكن فتحي يعرف البلطجية، كان لا يعرف غير المنتج، اتهمه في محضر الشرطة ولكنه عجز عن الإثبات أو تقديم أي دليل، وتم حفظ المحضر.

طلاق

جن جنوني، تقول شاهيناز، هرولت إلى المنتج أصرخ في وجهه بأنه لن يراني بعد اليوم، أسرعت إلى المستشفى، لكن فتحي استقبلني بأربع كلمات متتالية، خرجت من  فمه كطلقات مدفع رشاش: أنتِ طالق... طالق... طالق.

وفوجئت به يخلع خاتم الزواج من يده ويلقي به في وجهي. لم يتراجع فتحي، ولم يرحم أحزاني، أو يقدر ندمي، طلقني طلاقاً بائناً، ثم طردني من بيته وهو ينظر إلى ساقيه المشلولتين ويبكي. لم أتحمل الموقف، ورحت أجرجر قدميَّ وأنا أخرج من بيتي منهارة. لم أجد أمامي غير المنتج السينمائي، تلقفني، لم يشمت لما أصابني، بل الغريب أنه أحسن استقبالي، ومنحني كل سلطات إدارة مكتبه، وأمطرني بهداياه الثمينة. اشترى لي أغلى الفساتين، والمجوهرات، وأندر العطور، وأتى ليّ بالمدرسين ليعلموني البروتوكول واللغة العربية والإنكليزية. أحاطني برعاية أدهشتني حتى انتهت فترة العدة وتزوجني عرفياً.

لم يمض عام حتى ظهرت في ثلاثة أفلام سينمائية، أدوار متوسطة ولكن بارزة. إلا أنني نجحت أكثر في إحياء السهرات التي يقيمها زوجي لكبار الأثرياء ورجال الأعمال الذين يقنعهم بالإنتاج السينمائي. ثم بدأت أكرهه، فقد كان يمنح أدوار البطولة كافة التي يعدني بها لنجمات معروفات، وعندما عاتبته صرخ في وجهي بأنني لا أصلح للبطولة وطالبني أن أكف عن أوهامي، وأنه غير مستعد ليخسر اسمه بسببي.

عرفت حجمي الحقيقي، وندمت على أيام فتحي، لذلك تحينت الفرصة لتكون لي حياتي الخاصة بعد كل ما خسرته. وفعلاً جاءت الليلة الموعودة. طلب زوجي أن اهتم بضيفه الكبير في حفلة من الحفلات التي يدعو إليها الأثرياء، وكان ضيفه الكبير محل اهتمام جميع المدعوين فهو عيد ميلاد لاجئ عربي في القاهرة. كان عجوزاً، وكان ثراؤه فاحشاً. أحييت الليلة من دون أن يخطر في بالي لحظة أن هذا الكهل سيطلبني للزواج. كنت في قمة سعادتي لأنني في داخلي كنت أريد رد الصفعة إلى المنتج الكبير. لا أعرف من أين امتلأ قلبي بهذا الانتقام رغم النعيم الذي أغرقني فيه. ربما كنت في أعماقي أريد الثأر لفتحي حتى يشرب زوجي الثاني من الكأس نفسها.

زواج ثالث

نجحت في فرض إرادتي، وانتزاع الطلاق للمرة الثانية. تزوجت اللاجئ العربي الذي توفي بعد ستة أشهر فقط من زواجنا، فورثت خمسة ملايين جنيه. كان أول أمر فعلته هو الاتصال بفتحي. لم أنس رقم هاتفه عند الخردواتي أبداً، كان مهذباً، طلب بكل أدب ألا أعاود الاتصال به، عرضت عليه أن يزورني فرفض. ذهبت أنا إليه، كانت فكرة عودتي إليه تؤرقني كل ليلة، لقد أصبحتُ مليونيرة، وبمقدوري أن أعيش مع فتحي حياة جديدة نعوض فيها ما فاتنا، وكانت فكرة الاعتزال أيضاً تراودني لتكون مهراً أدفعه لفتحي هذه المرة.

حسم فتحي النقاش بيننا مؤكداً أن ملايين الدنيا لن تعيد إليه ساقيه المشلولتين، ولا وجهه المشوه بعشرات الغرز الطبية، وقررت الانصراف حينما أهانني، أو هكذا تخيلت. لقد قال لي في كلمات صريحة ومباشرة إنه كان مستعداً أن يدفع الثمن كاملاً ويصيب الشلل كل جسده، بشرط ألا يلمس جسدي رجل غيره، ولو بالزواج، أما الآن وبعد أن تزوجت مرتين فلم أعد أهمه في شيء.

لم أفكر في فتحي بعد هذه الليلة، فلم أكن مستعدة ليذكرني بالماضي الذي أكرهه كلما حاولت مقابلته ومساعدته، استغرقتني حياتى الجديدة بعدما شاركت أحد رجال الأعمال في أحد مشروعاته بكل ما أملك من مال، عرفت مجتمعات الكبار، وتجولت في عواصم أوروبا وأرقى محلاتها ودور أزيائها العالمية. لكني ابتعدت عن الإعلام وركزت في نجاحاتي التجارية المتتالية، ولم أرفض الزواج من شريكي المليونير، الرجل الذي وضعني على أول الطريق في عالم سيدات الأعمال. لكن سميحة زوجته الأولى هدت عشنا الجميل فور أن علمت بزواجنا السري، واحتراماً للرجل لم أدفعه إلى التورط في تحدي زوجته الأولى. انسحبت من حياته بهدوء ولم اهتز يوم طلاقي منه، أصبحت معتادة هذه المواقف لأن الطلاق الأول يسحب كل ما تملكه المرأة من دموع وأحزان.

سارت حياتي بعد ذلك على وتيرة واحدة، عمل دائم، مكاسب متتالية، لا وجود للرجال في حياتي، وفجأة اتهمتني النيابة بقتل سميحة عندما التقينا مصادفة في الطريق العام. أرادت أن تجرحني أمام الناس فدفعتها بعيداً عني فوقعت تحت عجلات سيارة نقل ضخمة، لتلقى حتفها في الحال، وقال شهود عيان لا أعرفهم بأنني تعمدت الجريمة، وانتظرت سيارة النقل حتى اقتربت لأدفع سميحة تحت عجلاتها. أرجوك لا تذكرني بالحادث الحكم صدر، وبات نهائياً، وأنا وحدي أعلم أنني بريئة. المهم أن الأمر الوحيد الذي بقى من الماضي كله، هو خاتم زواجي الأول الذي ألقاه فتحي في وجهي ومعه كان يصرخ بيمين الطلاق. هذا الخاتم حتى هذه اللحظة هو أغلى مقتنياتي وأعز ما أملك في حياتي كلها. هل عرفت سر هذا الخاتم الآن؟ كنت أحتفظ به في حقيبة خاصة في شقتي وكلفت أحد الأشخاص بإحضاره لي من حقيبتي الخاصة، واتهمتني إدارة السجن بتحريض الشخص الذي أحضر الخاتم لي بتهريبه مع زجاجة العطر إليّ داخل السجن وهو أمر ممنوع طبقاً للوائح السجن.

قلت لها مقاطعاً: لماذا طلبت تهريب خاتم فتحي وأنت على بعد خطوات من لقاء عشماوي؟

* دي دبلة فتحي أول رجل دق له قلبي وآخر رجل، طلبتها لتكون في أصبعي وأنا على حبل المشنقة.

- وزجاجة العطر؟

* بقايا من عطر فتحي، سأقف أمام عشماوي وفي أصبعي الخاتم، وأشم عطر فتحي فأشعر أنه معي في آخر لحظة من عمري.

back to top