بدأت القصة مع تخرج الطبيب الشاب، أيوب، في كلية طب القصر العيني. لم تكن له تجارب في الحب أو خبرة بالنساء، أو رغبة في الزواج. عاش شبابه المبكر عاشقاً للطب، علماً ومهنة، منكباً على دروسه، باحثاً عن مراجعه، وكل جديد في أبحاثه. كان والده الوزير علي باشا أيوب معجباً بابنه ونبوغه بعدما انصرف عن كل لهو الشباب إلى العلم. أمر واحد كان يضايق الأب في ابنه، فالشاب النحيل هادئ الطباع كان يميل باستمرار إلى طبقات الشعب الفقيرة. لم يكن كمعظم أبناء الباشاوات والذوات في مصر ما قبل ثورة 1952. استهوته حياة الناس البسطاء الذين يعيشون بالكاد، لا تسبق أسماءهم الألقاب، ولا يسهرون في الملاهي أو نوادي السيارات، ولا يقودون السيارات الفارهة، ولا يملكون القوارب والعمارات والأطيان. لا يشترون ملابسهم من دور الأزياء العالمية، ولا يمضون الصيف على شواطئ الريفيرا، والشتاء بين المعابد ووديان الملوك والفراعنة في الأقصر وأسوان.

Ad

كان الدكتور أيوب ابن باشا، وابن بلد أيضاً. لكن حياته فور التخرج انقلبت رأساً على عقب. ذهب للعمل في أحد المستشفيات خارج القاهرة، وهناك التقى بها، {سناء}... حسناء مثيرة خلف الرداء الأبيض. منذ الوهلة الأولى دق قلبه  لها بعنف، ارتبكت نظراته، تلعثم، فلم يجد على شفتيه كلمة يرد بها تحيتها. يحدث بعض النساء في حياة الرجال انقلاباً أشبه بالانقلابات العسكرية في حياة الدول. الفرق الوحيد أن نسبة النجاح مضمونة دائماً في الانقلابات التي تقودها امرأة... لم يستطع الطبيب الشاب أن يقاوم، اعترف بالانقلاب بعد لحظات من وقوعه. رفع راية الاستسلام لقائدة الغزو الحسناء، سلمها مفتاح قلبه، وأصبح أحد رعاياها. لا يهنأ له نوم إلا إذا كانت هي آخر من تشاهده عيناه... ولا يشرق عنده نهار إلا إذا كانت أول ما تعانقه عيناه. استبد به هواها وطغى، حتى باتت دنياه ووطنه وجنسيته. إذا غاب عنها شعر باغتراب، وإذا ابتعدت عنه أحس بيتم. عندما تلمسه يداها يملك الكون وما فيه، وحينما تصافحه نظراتها تموت النساء في عينيه لتبقى هي، عاصمته الجديدة... الحسناء الطاغية كانت تعمل ممرضة في المستشفى... ومع ذلك قرر ابن الوزير الشهير أن يتزوجها مهما كان الثمن.

تمسك بها الطبيب الشاب وأصرَّ على الزواج منها... لم يعد قصر أبيه يستهويه. حجرة الكشف التي كان يلتقي فيها بالممرضة الحسناء كانت أجمل في عينيه من كل قصور العالم، من البيت الأبيض والشانزليزيه والكرملين، وقصور عابدين والقبة والمنتزه. كان يجد لذة ومتعة في سندويتشات الفول والطعمية برفقة الممرضة الحسناء أكثر من متعة الموائد المكتظة بأشهى المطهيات والمشويات في قصر الباشا الكبير. لقد أغنته الممرضة الحسناء عن الجميع.. لكن وصلت أنباء الغرام الملتهب إلى الوزير والد الطبيب الشاب في القاهرة، وطار معها عقل الأب الطامح إلى مزيد من السلطة. استدعى ابنه فوراً... واجهه بما سمعه فلم ينكر، صفعه على وجهه فلم يهتز. عاد الأب إلى هدوئه محاولاً إقناع ابنه بالمنطق، لكن الطبيب الشاب استخدم منطق الحب الذي وصفه أبوه بالجنون والعته والغفلة.

ثار الأب، هدد وتوعد، وكان معروفاً بأنه لا يتراجع عن كلمة، مجرد كلمة ينطق بها. قال لابنه بحسم:

- حفلة زواجك الأسبوع المقبل.

*رد الابن بدهشة: مين يا بابا؟!

- عاد الأب إلى لهجته الحاسمة: ليس هذا شأنك... لكنك ستتزوج من ابنة عائلة محترمة. سوف أمنحك فوق راتبك مئة جنيه كل شهر، واشتري لك فيللا فخمة. وإلا فلن تكون ابني بعد اليوم!

صمت الطبيب الشاب بعدما لمعت في ذهنه فكرة مثيرة: لماذا لا يوفق بين الأمرين، يرضي أباه ويرضي قلبه أيضاً.

الهانم

 كان والد الطبيب الشاب يسمع كثيراً عن نوال هانم... ابنة شقيق رئيس الوزراء سري باشا، فهي فتاة متدينة، تواظب على فروض الصلاة، وتنتقي ملابسها المحتشمة، ولا تعشق حياة النوادي والترف واللهو... لم يتردد الوزير علي باشا أيوب. طلب يد نوال هانم من عمها رئيس الوزراء سري باشا. على الفور التقت رغبة والد العريس وعم العروس، وكما وعد الأب ابنه الطبيب الشاب، تمّ الاتفاق على أن يكون الزفاف بعد سبعة أيام. لا توجد أي معوقات، فالمال كثير وعش الزوجية جاهز.

تم الزواج في حفلة أشبه بليالي ألف ليلة وليلة، لكن القلوب لم تكن سعيدة، فالزوج ينبض فؤاده بحب الممرضة الحسناء الفقيرة، والزوجة لم تستطع الاقتراب من قلب زوجها بعد، الذي كان الزواج فاتراً وجافاً، وهذه هي إحدى الحقائق القليلة جداً التي اعتمدت عليها الإشاعات في ما بعد... كان الطبيب الشاب قد أرضى والده بهذا الزواج، لكنه لم يرض قلبه بعد. قطع إجازة شهر العسل وعاد إلى المستشفى. الدنيا مظلمة في عينيه بعيداً عن الممرضة الحسناء.. العسل له مذاق العلقم مع أي عروس غير حبيبته الفقيرة. بحث عنها، فعرف أنها في إجازة، هرول إلى منزلها، فوجدها مريضة. عاتبته والدموع في عينيها. بكى وهو يهمس لها بأنه أتى ليتزوجها. فاتح والدها في الأمر، دبت الحياة في وجه الحسناء الفقيرة كأنها تعيش حلماً جميلاً. فشلت محاولات أبيها لإقناع الطبيب الشاب بالابتعاد عن ابنته، إذ تراجع وخاف واهتز عندما قال له الطبيب إنه جاء ليتزوج ابنته من الباب... ولا يريد أن يتبع أسلوبا آخر.

تم الاتفاق على أن يظل الزواج سراً كحل وسط لتفادي غضب الوزير والد الطبيب العريس. كانت أجمل ليلة في حياة العروسين رغم سرية الزواج. شعرا كأن العالم كله يزغرد لهما، كأن ملوك الدنيا قد حضروا إلى الشقة المتواضعة ليهنئوا العروسين بزفافهما. شعرا أن الكون يرقص لهما، وصوت أم كلثوم يأتي من جهاز راديو في مقهى بعيد وكأنها تغني لحبهما من خلف ستائر النافذة التي تتراقص كلما داعبتها نسمة هواء مدعوة إلى هذه الحفلة... ضمها إلى صدره فكأنه احتضن {ليلى} و{عبلة} و{جوليت} من دون أن يستأذن {قيساً} أو {عنترة} أو {رميو}.

وهكذا عاش الطبيب الشاب مع زوجتيه الممرضة الحسناء في شقتها الصغيرة في الريف، وكانت مصدر السعادة من ناحية... و نوال هانم  صاحبة الفيللا والعوامة الشهيرة والتي كانت تجهل أن زوجها تقاسمها فيه ممرضة من عامة الشعب وإن كانت تشعر بحس المرأة أن قلبه مشغول بحب آخر، جسده إلى جوارها كجبل الثلج البارد دائماً، عيناه لا تنطقان برغبة أو شوق أو حتى إعجاب، حديثه غير لائق، أفكاره متناثرة، يتثاءب فور حضوره إلى منزله، وينتابه نشاط عجيب كلما أوشك على الرحيل إلى المستشفى. أما الممرضة الحسناء فكانت تعرف كل شيء، وراضية بنصيبها. لكن بدأت مطالب الطبيب الشاب تزداد، والأب الوزير في حيرة من أمره، أين ينفق ابنه كل هذه النقود؟ استدعى ابنه أكثر من مرة وحذره من الإسراف والتبذير، لكن الابن لم يجرؤ على مصارحة أبيه بأنه صاحب بيتين، أحدهما جحيم تسكنه ابنة الباشا والثاني جنة تقطنها ابنة باشكاتب عمومي. لم يكن  الطبيب الشاب يكره نوال هانم بل كان يحترمها، فهي مظلومة مثله، مجني عليها مثله، إضافة إلى أنها سيدة فاضلة، متدينة، ناضجة، تعمل لآخرتها أكثر مما تعمل لدنياها. إلا أن للقلب في الحب شؤون وأحكام. لقد آثر عليها الحسناء الفقيرة وبادلها الغرام الملتهب، ولم يبق لنوال هانم عند زوجها أكثر من الاحترام.

سقوط الأقنعة

وتأزمت الأمور ذات ليلة... أصرَّ الأب على رفض المبلغ الذي طلبه ابنه، وأرسل الابن بأكثر من رسول إلى أبيه يتوسل إليه أن يدفع له هذا المبلغ لحاجته إليه، فإذا بالأب يتمسك بموقفه ويصرّ على الرفض... شكا الابن إلى أقرب أصدقاء والده... قال الطبيب الشاب لصديق والده إن أباه لو لم يرسل هذا المبلغ فسوف ينتحر... وأبلغ الصديق والد الطبيب فصاح في صديقه:

- {لن أخضع لتهديد ابني أبداً وابتزازه... ولن أرسل له مليماً واحداً}.

كان الأب واثقاً من أن ابنه يرهبه بهذا التهديد، وأن المسألة كلها لا تعدو أن تكون تهويشاً في تهويش... وفجر الطبيب الشاب مفاجأة مذهلة. كان بحاجة إلى مبلغ من المال لإنفاقه على منزله الثاني حيث حبيبته الحسناء. لم تكن تطالبه بأكبر من طاقته، لكنه كان حريصاً على إرضائها وتسديد تفقات الشهر الجديد في أواخر أيام الشهر  الذي لم ينقض بعد. كانت ترفض هداياه التي لا تنقطع لها. كانت تقول له إن أعظم هدية تلعب بعقل أي امرأة فوق ظهر الأرض هي كلمة حب من رجل تحبه... الحقيقة التي كان يخفيها الطبيب الشاب عن كل المحيطين وكانت سبب أزمته المالية هي مرض حبيبته الممرضة الحسناء وحاجتها إلى علاج يتم استيراده من الخارج. كان أيوب يتحجج تارة بحاجته إلى النقود ليدفع لها مصروف الشهر كما أخبر أعز أصدقاء أبيه، وطوراً يبرر حاجته إلى المال بإعالته لبيتين في آن كما كان يردد لبعض أصدقائه.

لكنه قبل أن يفجر المفاجأة أعلن عن السبب الحقيقي لزميلته الطبيبة، صارحها بأن سناء زوجته الحسناء لا بد من أن تسافر للعلاج في الخارج خلال أيام وإلا ماتت... وماتت معها الدنيا. سألته زميلته الطبيبة في المستشفى: {وماذا نويت أن تفعل؟}... صمت الطبيب الشاب برهة، ثم هب واقفاً وقال لزميلته إن أبيه معذور فهو لا يعرف الحقيقة، بل يدفعه دفعاً إلى النهاية التي لا بد منها، ثم همس لزميلته بآخر ما سمعته منه:

- أرجوك... أخبري أبي بأني لم أكن أقصده على الإطلاق في الفعل الذي سيحدث. أذهبي إليه وأعتذري له بالنيابة عني لأن الموقف الذي أواجهه الآن أكبر من أن احتمله وحدي.

  عاد الطبيب الشاب إلى شقته، وأخرج مسدسه من جيبه... صوبه نحو رأسه وداست أصابعه على الزناد. انطلقت رصاصة هشمت رأسه تماماً... وصرخت نوال هانم ومزق صراخها سكون الليل. وصل الخبر إلى الصحف في وقت كانت الرقابة على الصحف في أوجها، وتم عرض خبر انتحار الدكتور أيوب علي أيوب على رئيس الوزراء باعتباره الحاكم العسكري للبلاد... ورفض سري باشا نشر الخبر على أنه انتحار. تخيل أن الناس سوف يرددون أن العريس انتحر هرباً من عروسه ابنة شقيق رئيس الوزراء. خشي أن يسبب هذا الكلام جرحاً لعائلة رئيس الوزراء، فأمر بنشر الخبر على أنه وفاة عادية.

لم يقتنع القراء بالخبر الذي شوهته الرقابة، فانطلقت الإشاعات التي جعلت الملك فاروق بطلاً أدخلته على أحداث الإشاعة... حتى الرصاصة جعلوها تنطلق من مسدس الملك. أما نوال هانم فقد جعلوها صديقة الملك وزوجة خائنة. طاردت الإشاعات نوال هانم السيدة الفاضلة، المتدينة، المحتشمة، الوقورة... ولسوء حظ نوال هانم أن قامت ثورة يوليو في أعقاب الحادث، ولم تجد صحافة الإثارة رواية أكثر خصوبة من رواية نوال هانم فالشعب يتناقل حكايتها على أنها آخر عشيقات الملك وأكثرهن فضيحة... كان الجميع على ثقة من أن الزوجة الشريفة لم ولن تجرؤ على أن تدافع عن شرفها وأن الخوف سيجعلها ترتعد من رد الفعل إذا هي كذَّبت الخبر وكبار المسؤولين.

همسوا في أذنيها بأنها تؤدي خدمة قومية كبيرة... مقابل كل كلمة تنال من سمعتها. جلست في منزلها تبكي بحرقة بينما الجرائد والمجلات تحكي عن زوجها الذي قتله الملك في حجرة نوم الزوجية. ظلت نوال هانم ترفع يديها إلى السماء وتقول: {حسبي الله ونعم الوكيل}.

ومرت السنوات... ولم تعلن الصحف نتيجة التحقيق أو مصير شهادة الأب الذي أجبروه على إعلان خيانة زوجة ابنه مع الملك فاروق. لم تنشر الصحف نتيجة التحقيق لأنه لم يكتمل، فلم يكن تحقيقاً بالمعنى المفهوم... كانت الصحف مضطرة إلى {فبركة} بعض الإشاعات لتشويه صورة الملك. ذلك كله ونوال هانم لا تسأم من الدعاء إلى السماء... وعاشت سنوات طويلة مديدة حتى جاءت الثمانينيات ليشهد الصحافي الكبير مصطفى أمين شهادة حق ويقول كلمة صدق. أعلن الكاتب الكبير أن نوال هانم إحدى أشرف وأعف النساء... لولا الإشاعة إياها. وتبارى كبار الكتاب في نشر الحقيقة ورد اعتبار السيدة المحترمة بعد سنوات من المهانة والفضيحة... وكتبت الكاتبة الصحافية أمينة السعيد في {أخبار اليوم} كلمة إنصاف في حق الأب الذي أجبروه على أن يشهد زوراً وبهتاناً... وهو الوزير اللامع السابق، والباشا المنتمي إلى إحدى أرقى العائلات وأشهرها، لتكتب كلمة النهاية بعد رجوع الحق إلى أصحابه وبراءة {نوال} هانم وسلامة سمعتها... بعدما حولتها الصحافة وألاعيب السياسة إلى خائنة رغم أنفها.