المجتمع السعودي بعلمائه ومثقفيه وإعلامه، منشغل هذه الأيام، بقضية مصير قطاع من أبنائه ذهبوا إلى القتال في سورية بدون إذن الدولة أو علم الوالدين، بحجة الجهاد ونصرة الإسلام، بعضهم قتل وبعضهم أسر وبعض لا يعرف مصيره، الآباء والأمهات في صدمة نفسية وفجيعة عظيمة، ما أقسى على هذه الأم ترقب أخبار ولدها في ميادين القتال، فكيف إذا علمت بمقتله؟!

Ad

قبل سنوات كتبت مقالة "الآباء آخر من يعلم"، أي بسفر أبنائهم لجبهات القتال، ذكرت فيها رسالة أب مفجوع يقول: "أكتبها بقلب يعتصر ألماً، وعيون لا تكفكف دموعها، لقد فقدت ابني البكر- 17 ربيعاً- غرروا به، زينوا له طريق الموت، وأقنعوه بتفجير نفسه"، الآباء والأمهات والأهالي ناشدوا السلطات المسؤولة معرفة مصير أبنائهم وتكثيف الجهود لإعادتهم، وطالبوا الإعلام بتسليط الأضواء على مأساتهم وناشدوا العلماء بتكثيف جهودهم من أجل عودة أبنائهم وتوعية الشباب وتحصينهم في مواجهة فكر الهلاك.

ما هو حاصل في المجتمع السعودي حاصل مثله في بقية المجتمعات العربية والإسلامية ولكن بنسب مختلفة، تبعاً لقوة المناعة الفكرية ونسبتها من مجتمع إلى آخر ضد أمراض التطرف والغلو وثقافة الموت، ولا شك أن الخطاب التحريضي عبر المنابر الدينية والمواقع الإلكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي، أو أن درساً دينياً أو فتوى تكفيرية أو خطبة تحريضية لعبت درواً بارزاً في دفع خيرة شباب الأمة إلى هدر طاقاته في ميادين الهدم والتخريب والقتل والإساءة إلى الدين والأوطان، بدلاً من أن يكون عاملاً في دفع الشباب إلى ميادين البناء والتنمية والإنتاج، شاب في عنفوانه يلبس حزاماً ناسفاً ويدخل مجلس عزاء، يفجر نفسه في الحزانى فيتطايرون أشلاءً، ويظن أنه قام بالجهاد وانتقم من أعداء الله تعالى، مثله في ذلك مثل من قال الله تعالى فيهم "الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهو يحسبون أنهم يحسنون صنعاً".

4000 عربي فجروا أنفسهم في العراق، وقوائم الإرهاب الأميركية تضم 875 ألفاً، أغلبهم عرب ومسلمون، وباكستان أصبحت عاصمة للعمليات الانتحارية طبقاً للدكتور عبدالله المدني، هناك ما لا يقل عن 310 عمليات انتحارية تمت في باكستان منذ أكتوبر 2001، وأكدت وثيقة حكومية باكستانية أن نصف من بُرؤوا من الإرهاب عادوا إليه، وفي السعودية تمت محاكمة ألف إرهابي (أكتوبر 2008)، ومازال "الإرهاب الجوال" يقتل المصريين في قلب القاهرة وسيناء من أجل الشرعية وعودة الخلافة، وأصبح فيروس الإرهاب عابراً للقارات، آلاف الشباب أتوا من أوروبا للقتال في سورية، يتساءل المرء بحسرة وألم: بأي دين وأي منطق يكون القتل والتفجير جهاداً؟!

ما الحل؟

 يُحمِّل الأهالي والإعلام والكُتّاب في السعودية دعاة التحريض مسؤولية التغرير بالشباب أخلاقياً وجنائياً، ويطالبون بتشريع يجرم خطاب التحريض ويسمح بمحاكمة دعاته وطلب التعويض، وهو أمر سبق أن دعا إليه كثير من المثقفين منذ سنوات عدة، إذ قام 3 آلاف مثقف عربي بتقديم قائمة سوداء بأسماء مشايخ التحريض في العالم العربي، إلى الأمم المتحدة (فبراير 2005)، وعلى إثرها أصدر مجلس الأمن قراره التاريخي رقم (1624) بتجريم التحريض، ومطالبة الدول بإصدار تشريعات محلية بتجريم التحريض، وذلك بحضور قادة 160 دولة، إضافة إلى أن منظمة المؤتمر الإسلامي في "قمة مكة" التي حضرها قادة العالم الإسلامي (ديسمبر 2005)، أصدرت توصيات بتجريم الإرهاب- دعماً وتمويلاً وتحريضاً- وتم إصدار تشريعات بذلك في دول عربية عدة: الأردن، والإمارات، والكويت، لكن المشكلة في التطبيق، لعاملين:

1- إن كثيراً من دعاة التحريض، يتنصلون اليوم أو يتأولون ما قالوه بالأمس، فهم "فخخوا المجتمع، واليوم يتبرؤون من تبعاته"، (فاخر السلطان).

2- كيف يمكن محاكمة رمز ديني له شعبية كبيرة من غير حدوث اضطرابات أمنية؟ ولعل المملكة العربية السعودية- الوحيدة فعلاً- التي أصدرت أحكاماً قضائية ضد شخصيات دينية محرضة.

إذن ما العمل؟

لا شك أن دعاة التحريض يتحملون جزءاً من المسؤولية الأخلاقية والجنائية، وقد يكون في إصدار قانون بتجريم التحريض ما يردع ويحجِّم، ولكن هلا تساءلنا: ما الذي يجعل قطاعاً من الشباب يتأثر وينقاد لخطاب التحريض، بينما القطاع الأكبر منهم لا يتأثر به؟! إنه بسبب "ضعف التحصين الفكري" لدى هؤلاء الشباب، أو مرض نقص المناعة الفكري أو القابلية النفسية للفكر العدمي، وقد سبق أن طالبت في العديد من المقالات "لماذا يتطرف الشباب؟"، "كيف نحصِّن مجتمعاتنا ضد التطرف؟"، "كيف نحبب شبابنا في الحياة؟"، بأن يكون لدينا استراتيجية ثقافية على مستوى الدولة والمجتمع تتعاون فيها المؤسسات والأجهزة الرسمية والمجتمعية كافة في تحصين الشباب ثقافياً ودينياً ضد أمراض التطرف، تماماً مثلما لدينا: استراتيجية للرعاية الصحية، يتم فيها تحصين أطفالنا بالتحصينات الواقية ضد الأمراض والأوبئة.

وأشرت إلى مقالة مهمة للكاتبة السعودية د. أمل عبدالعزيز الهزاني عن "تحصين التعليم" حيث ذكرت أن التعليم الذي يحصن الناشئة، هو التعليم المتعافي من "الأيديولوجيا" بأن يكون القائمون عليه من إداريين ومدرسين، لا يحملون معهم أجندات فكرية خاصة، وليست لهم أهداف تتجاوز مهامهم التعليمية.

 وفي مقالة جميلة للدكتور محمد الرميحي، أخيراً، تحدث فيها عن "نقص المناعة لدى العرب" باعتباره مولداً لكثير مما يشكو منه العرب اليوم، وأذكر أن الملك عبدالله بن عبدالعزيز عندما كان ولياً للعهد صرح "آن الأوان لننزع بذور الغلو والكراهية" كما سبق لمجلس الوزراء السعودي أن دعا إلى محاربة فكر الإرهاب على مستوى الأسرة والكلمة والموعظة والفتوى، ولكن ترجمة كل ذلك تتطلب، التوافق على استراتيجية وطنية وتحصين المجتمع فكرياً ضد فيروسات التطرف.

معركتنا مع خطاب التحريض معركة طويلة، هي من أجل مستقبل عقول وقلوب تم اختطافها، يجب استعادتها وكسبها، كقضية "أمن وطني".

* كاتب قطري