هل ثمة مفهوم محدد للفتنة في الإسلام؟ وكيف رُصدت في القرآن؟

Ad

للفتنة في الإسلام معنيان: عام وخاص. يعرف المعنى العام الفتنة على أنها كل ما يفتن ويصرف المرء عن دينه، وحينما يكون الأمر مختلطاً ولا يدري الإنسان وجه الصواب أو الخطأ فيه فذلك من الفتنة. والمصطلح نفسه ورد بمعان كثيرة في القرآن الكريم، من بينها مثلاً قول الله عز وجل: «وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ» (الأنفال:28)، فالأولاد فتنة بمعنى أنها تصرف المرء عن عبادة الله الحق، لأن المرء دائماً يكون مشغولاً ومهموماً بأولاده وبأمر معاشهم وذلك يأتي على حساب الدين، فإّن تعلق به الوالد تعلقًا أكثر من اللازم فتنه عن دينه، كذلك المال حيث إن حب الإنسان للمال قد يصرفه عن دينه ويأخذ وقته كله.

يحضرني أيضاً في شأن الفتنة قول الله سبحانه وتعالى: «وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا» (المائدة: 41)، أي أنه ينشغل بالباطل على الحق. والفتنة أيضاً هي التي تطفو على سطح الأمة الإسلامية في هذه الأيام حينما تجعل الحليم حيران وتجعل أهل الحق غير مهتدين إلى الحق وذلك ما جاء في قول الرسول (ص) في شأن الفتنة وحيرتها للناس وتركها للناس حيارى، فتنة تجعل الحليم حيران. وفي رواية يمسي الرجل في الفتنة مؤمناً ويصبح كافراً، أي أنه في زمن الفتنة تجد معظم الناس لا يثبت على مبدأ، فمن قبل كان يمثل مبدأً معيناً والآن أصبح يناصر مبدأ آخر لا دين له ولا أخلاق ولا مبدأ له، فما كان محرماً أصبح مباحاً، وما كان مباحا أصبح محرماً. وهذا تصوري العام عن الفتنة.

ما هي وسائل تصدي القرآن والسنة النبوية للفتنة؟

يحضرني في هذا الشأن موقف لرسول الله (ص)، حينما أوصى المسلمين بالتزام البيوت خلال أيام الفتن، وعدم السعي والهرولة إليها وعدم مجاراتها والخوض فيها، ففي جزء من حديث مروي عنه، قال: «القاعد فيها خير من الساعي إليها»، مؤكداً على ضرورة أن يلزم المرء بيته، لأنه حينئذ لا يستطيع أن يرضي جميع الأطراف، وقديماً قالوا إرضاء الناس غاية لا تدرك، وحينها خير للمرء أن يلزم بيته، وألا يخوض مع الخائضين لأنه إذا فعل ذلك يكون من أسباب دخوله النار.

فالخوض مع أصحاب الفتنة يورث غضب الله وسخطه، وفي النهاية يجب على المسلم العاقل الحكيم الذي يريد لنفسه ولدينه السلام والوقاية أن يلزم بيته وألا يخوض مع الخائضين وألا يقف موقفاً إيجابياً ولا سلبياً من أمر هذه الفتنة لأن الوجه الإيجابي والسلبي غير ظاهر بيقين حتى يناصر رأياً أو يعادي الرأي الآخر.

لكن ألا توجد سبل أخرى لمواجهة الفتنة غير الاعتزال؟    

اعتزال الفتنة يعد علاجاً سلبياً، لكنه ليس الوحيد فثمة صور عدة للتعاطي الايجابي التي تبدأ بقول المرء كلمة الحق إذا كانت واضحة، بالإضافة إلى رسوخه في العقيدة وقوة الإيمان والشجاعة وحب الله والحق ومناصرة ذلك كله، وإن استطاع أن يدلي بدلوه وأن يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر وأن يكون سيفاً قوياً في وجه الباطل وأن يكون مدافعاً عن الحق لكان ذلك خيراً له ألف مرة، لكان على المرء فعل ذلك وإن لم يستجب له ولي الأمر فما عليه إلا أن ينفذ قول الله، سبحانه وتعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ» (المائدة:105).

هل الفتنة تعني عملية الخروج على الحاكم أم هي خاصة بحالات الصراع داخل المجتمع؟

ثمة فرق بين الخروج على الحاكم وبين حالات الصراع التي تؤدي إلى الفتنة، فمنطلق الخروج على الحاكم شرعي، لأن المفروض في الإسلام أن يتم الخروج لأسباب شرعية؛ إما لعدم قيامه بوظائفه على الوجه الأكمل أو عدم تحقيقه العدل بين الرعية أو تفشي الظلم على يديه أو تقسيم الناس إلى فئة محظوظة قليلة وإلى كثرة تعاني صعوبات الحياة والعيش في رخاء. في هذه الحالات، يُعد الخروج عن الحاكم شرعياً. لكن الخروج يجب أن تسبقه النصيحة بالكلمة والموعظة الحسنة، فإن سيدنا محمد قال: «أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر»، فإذا لم يستجب الحاكم للنصح ولم يتعظ وإذا تم أمره بالمعروف فلم يأته وإذا تم نهيه عن المنكر ولم ينته وظل ساعياً في الأرض بين الناس بالفساد كان ذلك سبباً مصوغاً للخروج عليه إن أمنت الفتنة من هذا الخروج. أما إن لم تؤمن الفتنة من الخروج فمن باب درء المفاتن وجلب المصالح ننتظر حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً.

أما الصراع الذي هو داخل المجتمع الواحد، فذلك جاء لأجل الدنيا ومنطلقه حب الزعامة والرئاسة وليس للدين فيه من نصيب أو هدف مقصود يسعى إليه، ومن ثم فلا ينبغي لطرف من الأطراف في حالة الصراع الدنيوي أن يستحضر الدين أو يستخدمه للوصول إلى ما يريد من غرض ذاتي أو هدف شخصي، فإن الدين من كلا الطرفين براء، لأن أصل الصراع ليس دينياً فكيف يعالج بأمر ديني أو أن يكون الدين شماعة لتذليل الصراع. لذلك نجد اليأس المخيم على الأمة في هذه الأيام من عدم وجود الأمل في غد أفضل.

لماذا وصم مؤرخو السلطة أي حركة اجتماعية على أنها فتنة؟

كل يغني على ليلاه، فوصف هؤلاء للفتنة على أنها خروج على الحاكم، لأجل أغراض شخصية ومنفعة ذاتية ليسلم أمر الدنيا لهم، ويبقى المنصب لهم وكي لا ينازعوا فيه من غيرهم. و لو كانوا مؤمنين بالله ما كانوا سارعوا إلى هذا الإدعاء وما رموا الأبرياء به وما سموا الأشياء بغير أسمائها.

ما حجم تأثير الفتنة الكبرى على مجرى التاريخ الإسلامي حتى الآن؟

يمكن الإجابة عن هذا السؤال بقول الله تعالى: «تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ» (البقرة:134)، فلا يحب النظر إلى الماضي والتعلق بشماعته لإحلال أنفسنا من هذا الأمر، فلكل زمن ظروفه ولكل حادثة كما يقال حديث، وأصحاب الفتنة التي يسميها المؤرخون بأنها فتنة كبرى كلهم من أصحاب رسول الله، الذين قال عنهم: «لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي؛ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَوْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلاَ نَصِيفَه».

لكن يرى البعض أن الفتنة الكبرى هي سبب الفتن التي نعيشها الآن في العالم العربي؟

لا نستطيع أن نكمم الأفواه أو نفرض على الناس رأياً لا يقتنعون به، والله يحاسب الجميع، ومن قال ذلك فهو أدرى بقوله ومسؤول عن قوله أمام الحق عز وجل. يكفي أن رسول الله أوصانا بعدم سبّ الأموات، ونحن لسنا ممن يشجع النبش في قبور الموتى، وفي الحديث عن الفتنة الكبرى نبش في قبور الموتى فلن يفيد ذلك بشيء، ومن يردد أن الفتنة الكبرى هي السبب في ما نعيش فيه ينشر دعوة سلبية، هدفها استسلامنا للفتنة وعدم علاجها، وعدم خروجنا من النفق المظلم والمأزق الضيق الذي أحرج أمة الإسلام بأكملها وأضحك الأعداء علينا، في حين أن أمة الإسلام يجب أن يكون لها السبق والريادة ويجب أن تكون كلمتها هي العليا.

لماذا بدأت فتنة الحرب الأهلية تطل على المشهد العربي أخيراً؟

لبعد الأمة عن القرآن والسنة النبوية، ولبعد الأمة عن الولاء لله بعدما ارتمت قاطبة، وأنا أتحمل ما أقول، في أحضان دول الكفر وراحت تُواليها على حساب القيم الإسلامية، لأجل إرضاء أمة الكفر ليحل بها ما حدث وتقع فيها من الكوارث القاصمة. ويكمن العلاج في أن تغير الأمة من حالها وأن تتصالح مع ربها وأن تنشر قيم الإسلام بين أفرادها وأن تتعاون مع الجميع إزاء طاعة ومرضاة الله، وفي أن تتغير حال المسلم من سلبية إلى إيجابية، وأذكر بقول الله سبحانه وتعالى: «إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ» (الرعد:11).

هل الفتنة الطائفية خطوة أولى إلى تقسيم الدول العربية؟

صحيح. لا يدع الشيطان فرصة يستطيع من خلالها أن يفسد علاقة الناس بعضهم ببعض إلا ويستغلها ضد أمة الإسلام. وهذا مدخل من مداخل الشيطان، إذ يستغل مثل هذه الأمور لإشعال الفتنة الطائفية، رغم أن الإسلام استوعب الواقع والمخالفين في الرأي، فلم يضق ذرعاً بأي مخالف، ولم نجد ديناً استوعب المخالفين له في الرأي مثلما فعل الإسلام، فمن يبتدع أنه يراعي مصلحة الأمة ويدافع عن طائفة بعينها ويستخدمها في تأجيج الصراع وإعلاء شعلة الفتنة، ينطبق عليه قوله تعالى: «يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ» (البقرة:9)،  وقوله: «وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ» (البقرة: 11-12).

كيف يستخدم الغرب الفتنة في تقسيم بلاد المسلمين؟

يستخدم الغرب تلك الفتنة في تقسيم بلاد المسلمين، ولا يتوانى في إجهاض الوحدة بين الدول الإسلامية، وفي زرع الفتنة كلما لاح له في الأفق سبب يدعو إلى ذلك حتى لو كان اصطناعياً أو مزعوماً. لا ألقي باللوم على الغرب؛ وإنما على أهل الإسلام، الذين يدعون الفرصة للغير لاستعمال مثل هذه الفتن في إضعاف الأمة الإسلامية لتفت في عضد العالم الإسلامي وجسمه. يجب على المسلم أن يكون كيساً فطناً وأن يغلق مثل هذه الأبواب أمام الغير. أما أن يكون هو المساعد على فتح تلك الأبواب ودخول الفتنة إلى مجتمعاتنا فهذا شيء لا يصدقه عقل.

كيف تقيم آراء بعض المستشرقين الذين أكدوا في دراستهم على وجود الفتنة في الإسلام؟

المستشرقون لهم تاريخ طويل كئيب ومرّ بالنسبة إلى الإسلام وأهله، وكثير منهم بنسبة 99 % لم يدرس الإسلام لذات الإسلام ولم يحفظ القرآن لذات القرآن ولم يدرس السنة حباً في صاحب السنة. إنما أقبل بشغف على معرفة ذلك كي يلقى بالتهم على أمة الإسلام وعلى ضعاف الإيمان، فالمستشرقون يسخرون دراساتهم هذه لجعلها حرباً شعواء على أمة الإسلام وعلى الإسلام كدين، لذلك يجب على علماء الأمة الإسلامية أن تحارب مثل هذه التهم وأن ترد عليها وألا تضع الفرصة أمام هؤلاء ليستخدموا ذلك في الحرب على الإسلام وعلى ضعاف النفوس من أهل الإيمان.

في رأيك الربيع العربي ثورة أم فتنة؟

الربيع العربي من وجهة نظري المتواضعة يعد فتنة ولا أبالغ إن قلت إنها من صنيع الغرب، بدليل أن الإسلام لم ينتفع من هذه الثورات بأمر، ولو أن الغرب أراد قمعها وهي في مهدها لفعل ذلك. إنما حينما انتهت أوراق زعماء وحكام بعدما أدوا أدوارهم المطلوبة بنجاح لأسيادهم في الغرب الذين باركوا توليتهم، وهذا كلام معروف وليس بجديد، انتهت أوراقهم، وهو ما يحدث لكل رئيس في دول الإسلام يسعى أسياده الذين عينوه إلى الإطاحة به والاتيان بغيره حتى يحقق لهم غرضاً جديداً فشل القديم في تحقيقه لهم.

كيف نبني مجتمعاً إسلامياً لا يعرف الفتنة؟

بناء مجتمع إسلامي لا يعرف الفتنة يأتي بإعلاء كلمة الحق وبإعلاء مصلحة الوطن وبالعمل للصالح العام والتبرأ من كل مصلحة شخصية ذاتية، وإن عمل الجميع بذلك لله ووجدت السنة مكاناً في بؤرة شعوبها ووجد الدين مكاناً للرجوع إليه وكان هم الجميع إعلاء الدين وشموخه واكتفت الدولة ذاتياً ولم تنزلق في أحضان الغرب، لو أن الجميع سعى إلى تحقيق تلك الأهداف لكانت حياتنا وردية خالية من المنغصات والمكدرات. ونسأل الله أن يهدي أمته إلى طريق الصواب.

في سطور

الدكتور عطية عبد الموجود إبراهيم لاشين، أستاذ الفقه المساعد في كلية الشريعة والقانون في جامعة «الأزهر»، بعدما حصل على درجتي الماجستير والدكتوراه من الجامعة ذاتها. له مؤلفات علمية عدة في مقدمها «الأناة في مصارف الذكاة، مشكلات زوجية وحلولها الفقهية- دراسة مقارنة في الفقه الإسلامي، الطلاق الثلاث بكلمة واحدة، حقوق عقوبة السرقة، العبادات في الإسلام».