الشتاء على الأبواب، هارباً من جلده البارد، باحثاً عمّا يدفئ كفّيه المرتعشتين، وعمّا يعيد لهما لونهما الأصلي بعد أن سرقه منهما ذلك اللون الأزرق الثلجي!

Ad

سيفتش عما يجعل دمه يتدفق في عروقه، ويُحيي نبض قلبه، قَطَع المسافات الطوال حاملا في كل خلية من جسده سعار جليد بحثاً عن سعير، يمضغ أنفاسه ويخرجها صرخة من دخان، عَبَر فيافي وقفارا شاسعة لم يجد "فروة" تمتص البرودة من جسده، ولا تعاويذ نار تذيب الصقيع، ها هو الآن على أبواب البيوت باحثا عن ملجأ يستجير به من عذاب البرد، لن يكتفي بما سنقدمه له من ولائم الجمر، ولا من دخان الحطب، ولا من حنان الأغطية، سيجول كالمسعور في كل زاوية من زوايا البيت، وفي كل ركن فيه باحثاً عن طبق دفء ليلتهمه، لن يراعي حرمة منزل، ولن يلتفت لفزع طفل، لن يهدأ، ولن يستكين حتى يأتي على كل ما في مخابئ البيت من الدفء، حتى ذلك المدّخر في صناديق العجائز في ثياب الحكايات المعتقة!

كل قطعة دفء ستثير نهمه، وبعد أن ينتهي من كل ذلك سيتسلل إلى أجسادنا، متتبعا كل أودية الجمر فيها، أنف الشتاء لا تخطئ رائحة الدفء أبداً، تماماً كما لا تخطئ الجراجير رائحة الدم، سيمضي في طريقه داخل أجسادنا باحثاً عن كِسرَة دفء، إلى أن يصل حيث قلوبنا، تلك هي مواقدنا، وتلك هي الأماكن الوحيدة التي سيجد فيها الشتاء ما يشبع جوعه الشره إلى الدفء، فويل لمن كان قلبه خالياً أو ممتلئاً بالرماد، إن ذلك سيثير حنق الشتاء عليه، ولن يشفع له أي عذر، سيلتهم الشتاء قلبه قطعة قطعة، وسيزرع مكانه حقلاً من الوحشة المريرة، وسيزهر ذلك الحقل شوكاً كلما عاد الشتاء في كل عام، أما القلوب العامرة بدفء الحب، فستكون هي القلوب الناجية من جحيم الشتاء!

سيتسلل الشتاء بهدوء إليها، وسيجلس قربها متكوماً كقطة منزلية آنست دفء المواقد، ثم سيغمض عينيه مستسلماً هانئاً، ملتحفاً كشمير المشاعر الذي قام بنسجه نبض تلك القلوب، وكلما صحا الشتاء من غفوته بقرب مواقد تلك القلوب، أنشد بعض أغاني الحنين الآسرة، ودندن موسيقى الشجن، وأنشد بعض القصائد المغموسة بعطر الوجد، ثم عاد لغفوته مرة أخرى، هذا ما يفعله الشتاء مع القلوب الممتلئة مواقدها بالدفء، يألفها، ويصادقها، ويؤانسها يشاركها تجديل ضفائر الليل الطويلة، يضع لها قطع السكّر في شراب الحنين، ينخل لها الشوق في غرباله، لينقّيه من حنظل الوجع.

يحفظ لها جميل صنيعها به، فيملأها آماناً شهيّا، يطعمها لذة الانتظار، يحيل جمرها برداً وسلاماً، يمزج سعير نيرانها بصقيع جليده ليكتب معها "نوتة" الدفء الخالدة.

الشتاء على الأبواب... فمن لم يكن قلبه عامراً بدفء الحب فلا يفتح له -إن استطاع- مهما واصل الشتاء طرق بابه ومهما أطال وقوفه أمامه.