يستهلّ الشاعر محمّد علي شمس الدين في {النازلون على الريح} بوحه بـ{آلات الفجر}، وفيها يحاول قراءة الزّمن بحثًا عمّا في يده منه، مميّزاً بين لحظات لفظت أنفاسها بين عَدَم وإعدام، ولحظات نجت بحياتها: {... هل يومي بيدي؟/ وغدي؟/ يوميّاتي نافلة وقديمَة/ لكن من خوّلني أن أفصلَ/ بين اللحظات المعدومة/ واللامعدومَهْ...}. ويبدو شمس الدين محاصراً بالرّؤيا، مسكوناً بألم النّبوءة، وفي وجهه عينان تشكُوان دوماً من سيوف النوم: {خذلتني الرّؤيا، وصباحي/ أفلت من كفّ الليلْ/ فلأخرج من بيت سيوف النوم قليلاً/ وحدّق في هذا الويلْ...}. إلاّ أنّ الأسئلة التي تجترح أرقه الوجودي تقتصر الأجوبة عليها بإعادة صياغتها، لا سيّما إذا كان تناسل الضباب فيها على خصوبة وإذا كانت علامات الاستفهام في آخرها مرسومة بريش طيور عمياء: {تتدافع في بابي أسئلة/ وجموع طيور عمياء/ تناسل منها الشكّ إليّ/ فأوشك أن أهوي تحت الأنواء}.

Ad

وبصوفيّة يسكنها عصْفُ العقل يمضي الشاعر في طَرْق أبواب عميقة فيه ويستسلم لرؤياه بعينين مفتوحتين وقلب يستطيع العناق وهو على دوران دائم مع صاحبه: {صدري مفتوح/ ويداي مشرّدتان بلا مأوى/ لا شيء سوى النجوى/ شرّدني هذا الدوران/ وقلبي كالدولاب يدور معي/ ويعانق من أهوى}. وإذا كان لا بدّ من فعل، فهو لعصا مقطوفة من شجرة سماء، لها أن تشقّ البحر لعبور من ضفّة زمن إلى أخرى، يصنعه الأحياء والأموات والمرضى والمغيّبون: {أخذتُ عصا،/ وشققتُ بها جلد البحر/ لكي تعبر بين الجبلين جنودي/ وأشرت لمن ماتوا/ أن قوموا/ ولمن أنهكه الداءُ: تماسَكْ/ ولمن غيّبه الظنّ تعالَ/ وكن... فيكون/ وكمثل نبيّ في أرض الرّب/ غفوتُ هنا ملء جفوني/ عمّا تروون/ أسدلت ستائر أسبابي/ وتركت الشكّ صبيًّا/ يلهو/ ويدبّ على بابي}.

برتقالة فلسطينيّة

وفي قصيدة {البرتقالة} يغمس شمس الدين قلمه في برتقالة فلسطينيّة ويكتبها بلغة طاعنة في العاطفة والنزق. فالبرتقالة في أرض موجوعة دمعة تنمو في فيء أجراس ترتدي رنينها من بداية البدايات، وهي الشمس أيضاً أضاءها الله في أعالي الزرقة وفي سقوطها يصير الزمان إلى تراب: {البرتقالة دمعة الليمون/ أجراس تدقّ هناك/ من بدء الخليقة/ بين يافا والجليل/ والبرتقالة شمس هذي القبّة الزّرقاء/ علّقها مدبّر الأكوان/ بين القوس والميزان/ إنّ وقعتْ/ فقد سقط الزّمان...}. وقد تكون وجهاً لمريم لجأ إلى دمعة الشجر لتكون أيقونة من أيقوناته الكثيرة {ولعلّها وجه لمريم نائم/ في دمعة الشجر النبيل}، وفي قدسيّة هذا المشهد يتوجّه الشاعر إلى المحتلّ برمزيّة قاسية قساوة الوضوح محذّراً إيّاه من إصابة السّماء: {فاخفض سلاحك أيّها الصيّاد/ لا تضغط على الزناد.../ فاحذرْ أن تسدّد للسماء رصاصة/ فتصيب وجه الله}...

ويشغل المجاز الشاعر، ويحاول تعريفه شعريّاً فيراه ضرباً من إرادة القول حين نخبّئ في صدورنا زبد المعنى، ونتّخذ من اللغة أقنعة تقينا الحقيقة، أو تسعى إلى إقناعنا بحقيقة أخرى: {وكلّ ما في الأمر أنّنا/ نريد ما نقول/ ولا نقول ما نريد}. كما يرى الإنسان أسير غربتين، فالأولى حين تفترس الحقيقة المجاز، والثانية حين يذهب المجاز بالحقيقة لا إليها: {تعيش غربتين: غربة المجاز حينما يضيع في الحقيقة / وغربة الحقيقة التي تضيع في المجاز/ كأنّما الإعجاز أن تظلّ صامتا...}. ولا شكّ في أنّ المجاز إشكاليّة كبيرة، وشمس الدين خبير عتيق في التعاطي معه، فهو يُوهم خياله بأنّه حرّ، إلاّ أنّه يشدّه حين يشرد بخيوط خفيّة ليظلّ أمينًا للمعنى وللحقيقة التي لا أبرع من المجاز في تشويهها ولا أبرع منه أيضاً في جعل جمالها جمالات. فالمجاز سرّ اللعبة الشعريّة كلّها وكم من الشعراء قضوا شهداء له لأنّهم لا يتقنون توزيع الضوء والظلّ في اللوحة، ولا يعرفون أنّ للمجاز أشياء كثيرة يقولها على حريّته إن لم يحسنوا إثبات المعنى بين جناحيه الطليقين، وعلى امتداد صفحات الديوان، لا ينسحب شمس الدين من الريح، ويستمرّ ملتزماً همّ الجماعة، وإن كان يتجنّب الثرثرة الفاضحة ويلوذ بالاختصار الخاطف، كما في قصيدة {ملك}، حيث يختصر وجع الشرق فيعلن أننا لا نزال أمام ملك لا يشعر بأنّ الموت حقّ طالما أنّ الناس يموتون عنه؛ الناس الذين وُلدوا ليكونوا أمواتَه الدائمين، بينما أولاده يرثون الحياة من والد لا يموت: {سلّمه أبوه صولجان الملك/ ثم مات/ لم يمت/ فشعبه يموت دونه}. ورغم ديمومة الملوك بقدريّة سوداء، يعرف الشاعر أنّ الملك يعيش موته في حياته، وأنّ الله الذي مدّ له ظلاًّ على بساط النهار يستردّه في الليل، إذ لا ملك يستطيع فرض نفسه حقيقة في حين أنّه بعض من خديعة وبعض من جريمة: {أشار نحو ظلّه/ وقال آمرًا: أنا الملك/ لكنّه/ في الليل زال مُلكه.../ لا يسحب الظّلال/ غير من يمدّها}.

ويمضي شمس الدين إلى {المتنبّي} غامساً عينيه في تاج كبريائه، مسترجعاً سُحب حبر تحترف مطر الكرامة: {لا تقل ما يقول الذليلُ/ وابتكرْ/ أوّلُ الممكن المستحيل}.

ومع {أبو نواس} تتحوّل محبرة الشاعر كأساً ويستيقظ في الحبر من سفر فيصير لعدّ الأيّام معنى جديد: {سددتُ منافذ البلوى/ بكأس الراح/ ورحتُ أعدّ أيّامي/ على شفتيّ بالأقداح}.

ولم ينسَ شمس الدين {محمّد الماغوط} فأهدى إلى غيابه مفردات موشومة بحزن عميق، محاصَرة بدوران الأرض ومرّ الوقت، ساعية إلى رثاء عشبة متواضعة لن تكون سوى الحياة: {هل تدور الأرض/ أم أنّ الذي كان يدور/ حجل الوقت/ و{سيّاف الزهور}؟/ باحثًا عن عشبة يودعها جوف الفلاة/ عشبةٍ/ كنّا نسمّيها الحياة}...

في {النازلون على الريح} جملة شعريّة خاصّة تعيد تكريس صاحبها شاعراً أصيلاً، له من الحبر قفير تُتوّج فيه النحلة الملكة بالقافية الملكة.