كنز «الإصبع الصغيرة»

نشر في 13-08-2014
آخر تحديث 13-08-2014 | 00:01
 طالب الرفاعي منذ ما يزيد على العقدين، يعاني علم الفلسفة مأزقاً كبيراً بسبب من طغيان حياة الاستهلاك المادي على العالم، وانصراف جمهور كبير من الباحثين وجمهور القراءة عن الآراء والكتب الفلسفية. وانحصار الفلسفة في ردهات وفصول الجامعات والمعاهد لتكون علماً أكاديمياً، خاصة أن علم الفلسفة يهتم بالنظر إلى الظاهرة الكونية والبشرية ويقف ملياً أمامها، قبل أن يحاول تفسيرها، بلغته ومصطلحاته، والتي باتت، بسبب من روح العصر المتراكض، بعيدة عن اهتمام السواد الأعظم من القراء. لكن الفلسفة، تبقى بالرغم من اختبائها الظاهري علما في القلب من قراءة الحدث العالمي، وعلما في الصلب من حياة الإنسان، ووضع التفاسير التي تسيّر معيشته.

ربما، شكّل انصراف الجمهور سبباً لتقليص حجم وأثر علم الفلسفة في اللحظة الراهنة، لكن سبباً آخر لا يقلّ أهمية عنه يكمن في إصرار علماء الفلسفة على خطاب نخبوي أكاديمي، بلغة تحاكي المطلق، ويصعب فهمها بالنسبة للكثيرين، خاصة وروح العصر التي اتخذت من الإيجاز والتكثيف عنواناً عريضاً لخطاباتها. لذا حين يتصدى للوصل مع الجمهور عالم فلسفة مثل "ميشال سار- Michel Serres" فإن الوصل يأخذ بعداً إنسانياً مختلفاً، ويصار إلى قراءة الكتاب الفلسفي كأمتع ما تكون القراءة.

ميشال سار، عضو الأكاديمية الفرنسية، العالم والأستاذ والفيلسوف المولود عام 1930، في كتابه "الإصبع الصغيرة" ترجمة د. عبدالرحمن بوعلي، (69) صفحة، والصادر مع مجلة الدوحة في "كتاب الدوحة 36"، يقدم مادة الفلسفة كأشهى ما تكون مادة القراءة. وهو إذا يقدم أفكاراً عصرية لافتة، فإنه يتخذ من الجملة القصيرة والواضحة والملوّنة بأمثلة من الواقع طريقاً للوصول إلى ذهن وقلب القارئ.

فكرة الكتاب الأساسية تدور حول الإنسان الفرد، "الإصبع الصغيرة"، وكيف أنها صارت تقود العالم. فمخطئ من يظن أن التجمعات الرسمية، والإعلام الرسمي، هو من يشكّل وجهة نظر الناس تجاه أي قضية، فهذا كلام بات من مخلفات الماضي، فالذي يشكّل وجهة نظر الناس، ويؤثر في وعيهم وقناعاتهم الحياتية إنما هي تلك التجمعات الإنسانية العابرة للقارات. المواقع الإلكترونية وشبكات التواصل الاجتماعية، التي تجعل التحاور بين مختلف البشر أمراً متاحاً، وبالتالي تصنع رؤاهم الخاصة، التي بالضرورة تلامس الناس أكثر بكثير مما يستطع أي إعلام رسمي أن يفعل.

تواصل وتشابك البشر فكرياً ولغوياً مع بعضهم البعض، على اختلاف مشاربهم وقناعاتهم ولّد إشارات ولغة بشرية متجددة، والتوقف أمام هذه القضية يوضّح: "بهذا الإيقاع اللغوي، يمكننا أن نخمّن أنه، خلال بضعة أجيال، يمكن للأجيال التي ستخلفنا أن تجد نفسها أيضاً مفصولة عنا.. ويرجع هذا الفرق الكبير الذي يمسّ جميع اللغات، في جزء منه، إلى القطيعة بين مهن سنوات الخمسينيات ومهن اليوم، وسوف لن تسعى الإصبع الصغيرة وشقيقتها أكثر إلى امتهان الأعمال نفسها. لقد تغيّرت اللغة، وقد تحوّل العمل" ص 12-13.

إن كتاب "الإصبع الصغيرة" إذ يركّز على قراءة واقع إنسان اليوم، وكيف أن الفرد المتناهي الصغر أصبح مركزاً للكون، فإنه إلى جانب ذلك يتطرق إلى علاقة ذلك بالتعليم، وكيف أن أسلوب التعليم والتلقين والمدرِّس الذي يقوم بشرح المادة لطلبة منصتين ما عاد فاعلاً ولا مقبولاً. ففي فصول أدبية وعلمية كثيرة، تكون معرفة وإلمام الطالب أكثر بكثير مما يتصور المدرِّس، وهذا يتطلب بالضرورة النظر إلى تحديث وسائل التعليم، بدءا بإعداد المدرِّس، ومروراً بالاستعداد لمواجهة طالب عصري، وانتهاء بدور علم ودراسة مختلفة. خاصة إذا ما أُخذ بالحسبان أن تغيّر الإنسان فكرياً بات أسرع بكثير من تحول البيئة من حوله.

"الإصبع الصغيرة" كتاب صغير، لكنه كنزٌ يسعد المرء بالعثور عليه.

back to top