«المعرفة والارتياب» لعبد الرزاق بلعقروز... شغف الحقيقة الأدبية
صدر حديثاً عن «منتدى المعارف» كتاب «المعرفة والارتياب... المساءلة الارتيابية لقيمة المعرفة عند نيتشه وامتداداتها في الفكر الفلسفي المعاصر»، للكاتب الجزائري عبدالرزاق بلعقروز.
قُرئ فريدريك نيتشه قراءات مكثفة وتُؤوّل تأويلات متصارعة. والأغرب أن هذه التأويلات تنطلق جميعها من نص نيتشه الذي لا يُقدم إلينا في وحدته إلا على صعيد الاسم، وداخل الاسم مساءلات نقدية كبرى وبرامج تشريعية، تراهن على الكون في مستوى التحديات التي يقتضيها رهان التفلسف في كيفية استبصار المخارج، واستعادة الدهشة الفلسفية من جديد بعد هيمنة حقب الأفلاطونية اللاغية لأي أفق فلسفي خارج أفق المثال- الجوهر- الحقيقة.بحسب كتاب «المعرفة والارتياب... المساءلة الارتيابية لقيمة المعرفة عند نيتشه وامتداداتها في الفكر الفلسفي المعاصر»، فقد اسم نيتشه إحالته المعهودة على نمط من التفلسف يبتكر، في لحظات التحولات الحضارية التي لازمت القرن التاسع عشر، فناً في المنهج أو فلسفة في التقييم. صار اسم نيتشه علامة لأخطر سؤال يطفح على سطح الفكر، وعرض لتشخيص وفحص غير معهودين للمسالك المريضة التي يُدبّر بها إنسان الثقافة الغربية وجوده في سُكنى العالم الغريبة. هذا الإنسان الذي هو الآخر ليس واحداً إلا على صعيد الاسم، ففي دواخله تنغرس تأويلات الأديان والثورات السياسية ونظم القيم المدروسة. وهو على التحقيق لا يعرف نفسه، لأنه لم يطرح هذا السؤال عن نفسه ولم يكاشف حقيقة ذاته.
يتابع بلعقروز أن سؤال المعرفة عن الذات بتحقيب نواتجها المعرفية ووسائلها الإدراكية وقيمتها، إضافة إلى الحياة بالمعنى الذي خمنها فيه نيتشه، علامة فارقة على زعزعة يقينيات وثوابت متأصلة في الذاكرة الفلسفية، كتخصيص الإنسان بوصف التفكر، وتوجيه هذا الوصف التفكري نحو اكتناه جوهر الحقيقة القصوى، واعتبار هذه الحقيقة جوهرانية منفصلة عن الصيرورة وواحدة متعالية. وهذا التصور للحقيقة الموروث عن أفلاطون وبارمنيدس، هو الذي أسس عهد الحقيقة الأزلية الثابتة والكلية في الفلسفة والميتافيزيقيا وبعدهما في المعرفة العلمية.معرفة ومساءلةيلفت المؤلف إلى أن سؤال الحقيقة هذا حقيق علينا استشكاله من مداخله ومخارجه. يقصد الكاتب بالمداخل المعنى الذي خلعه نيتشه على مشكلة المعرفة والمساءلة الارتيابية لقيمتها، أما المخارج فهي امتداد هذه المساءلة وانفراط حباتها من التفكرات الفلسفية التي تلتها، إلا أن ملمح هذا الامتداد الذي مارسته المساءلة الارتيابية لقيمة معرفة الحقيقة، عند نيتشه، هو مخصوصية المتلقي الذي تجاوز أفق الثقافة الغربية ليعانق هم الثقافة العربية وما ينخر جسمها من أزمات، وما يلوح في أفق مُتغيّاها من إرادة التحرر والنهضة والتحضر ومجاوزة ثقافة الانحطاط.تأتي أهمية إشكالية دراسة للكاتب الجزائري عبد العزيز بلعقروز في أنها تستجمع في تحليلاتها الدلالة الثنائية في مسألة “المفاهيم المقارنة”. بمعنى أن دوائر انشغالها تدخل في رصد وتحليل الآلية والمهمة التي جرى فيها الأخذ بمفاهيم نيتشه في مشكلة قيمة المعرفة والحقيقة، إلى فروع معرفية أخرى، وذلك من داخل الفكر المشترك، أي الثقافة الغربية وأصولها أولاً، والبحث في المسوغات التي تأدت بالفكر العربي المعاصر إلى الإعجاب بفلسفة «السائل الكبير»، وتشغيل مفاهيمه بحثاً عن التحرر ودروب الدخول إلى دورة حضارية ونهضوية جديدة، وتجديد أنظمة المعرفة التقليدية، أو المواجهة مع أفكاره باعتباره مسؤولاً عن المآلات العدمية التي تطبع الفكر الفلسفي المعاصر ثانياً.مراجعات نقدية يؤكد بلعقروز أن المساءلة الارتيابية لقيمة المعرفة وامتداداتها في الفكر الفلسفي المعاصر تأتي، فضلاً عما سبق ذكره، في سياق المراجعات النقدية التي قطعتها المساءلات الإبيستيمولوجية المعاصرة في نقدها ليقينيات راسخة في الذاكرة العلمية والفلسفية، كالقول بجوهرانية العقل وبموضوعية المعرفة، والفصل بين الواقع والقيمة والنمو التاريخي لفكرة الحقيقة والمسار الغائي للحقيقة التاريخية التي يعدّ هيغل العلامة الأخطر على بلورة هذه الصياغة.كان النقد القيمي للمعرفة عند نيتشه دشن هذا النقد للمعرفة لكن من وجهة نظر قيمية لا من وجهة نظر ايبيستيمولوجية، كما هو النقد في الدرس الإيبيستيمولوجي والتاريخي المعاصرين، خصوصاً مع باشلار أو جورج كونغلهام مثلاً. اقتضى النقد الجذري لغرائز المعرفة عند نيتشه واستبدالها بغرائز الحياة وإحلال الحقيقة الفنية محل إرادة الحقيقة، مراجعة إرادة الحقيقة وقيمة المعرفة بالإحالة دائماً إلى شروطها الوجودية ورهاناتها المصلحية المنتجة لها.يضيف الكاتب أن الاعتقاد بالحقيقة المطلقة والثابتة الكلية سواء في طبعتها الميتافيزيقية أو طبعتها العلمية ليس إلا خطأ ووهم مرتبط بالحاجة الحيوية لإنسان حي لا ينفك عن الرغبة في الاستقواء، فالقيمة النفعية والوسائلية هي محرك الانشغاف بالحقيقة وليست غاية تدرك لذاتها. أما الحقيقة العلمية التي يتباهى بها العقل الحديث فليست في نظر نيتشه أكثر قيمة ولا أكثر موضوعية ولا أكثر تطابقاً مع الواقع من الحقيقة الميتافيزيقية. وبهذا فالنقد والارتياب لا يستثنيان الحقيقة العلمية ولا الحقيقة الفلسفية والميتافيزيقية، ذلك أن العلم في نظر نيتشه يتابع العمل الذي قامت به الميتافيزيقيا، ويخضع إلى المبادئ المثالية نفسها.امتدادات متنوعةيلمح بلعقروز إلى أن فلسفة نيتشه قد شهدت إعادة بعث وتنشيط، خصوصاً عقب الحرب العالمية الثانية التي كانت محكاً ميدانياً لتهافت مشاريع الأنوار وعناوين الحداثة: العقلانية، التقدم، الحرية. وإعادة البعث هذه على ضوء النماذج التي يسوقها المؤلف كعينات على تواصل النقد النيتشوي في الفكر الفلسفي المعاصر، يجوز تفريعها إلى فرعين: الفرع الأول يخص امتدادات النقد النيتشوي عموماً، سواء في الفكر الغربي المعاصر أو في الفكر العربي المعاصر أيضاً. وهي امتدادات متنوعة الفضاءات والحقول المعرفية، بين التحليل النفسي عند فرويد ونقد ثقافة العقل القمعية مع مدرسة فرانكفورت، خصوصاً على النحو الذي بلورها فيه ثيودور أدورنو، وأيضاً اللحظة الحيوية الفرنسية التي تعدّ الأكثر استقبالاً لنيتشه وترحيباً بأفكاره المنتجة في التحليل والمعبرة عن أزمة الإنسان الحديث.أما الفرع الثاني فيخصّ امتدادات النقد النيتشوي لقيمة المعرفة وإرادة الحقيقة لدى عينات من المساءلات الفكرية الراهنة، إذ أخذنا نموذجاً من القومية الفلسفية الألمانية، يستجمع في قراءته التوظيف المحدود والاعتراض على هذا الشغف الفلسفي بنظرية نيتشه في المعرفة المفرطة بانسياباتها التأويلية واللاغية لقيمة العقل، بترسيخ القدم في النموذج الجمالي والتأويل الأسطوري الذي ينصّب ملكة الذوق على العرش، فكان يورغن هابرماس النموذج الأمثل على تطوير هذه المساءلة.