يختبئ خلف أحجار كل قلعة إنكليزية شبحها الخاص بأسطورتها، فلكل قلعة حكاية درامية تميزها عن غيرها من القلاع التي تنتشر في مدن المقاطعات الإنكليزية الممتدة على طول وعرض مساحتها على الخريطة، فعبر عمرها الطويل الغائر في زمنها المتعاقب عليه حيوات ممتدة لملوك وأمراء ونبلاء تحت مسميات مختلفة من دوق وماركيز وكل سلالة الارستقراطية الانكليزية الموغلة في التاريخ البريطاني.

Ad

وفي كل زيارة لبريطانيا أحرص على مشاهدة القلاع الموجودة في المدينة التي أزورها، فكل حكايات التاريخ البريطاني بأفراحها وأحزانها تعشعش في زواياها وفي أحجارها، لتخبر الناس حكايات من عاشوا فيها وكانت لهم أحلامهم وطموحاتهم وأحقادهم ودسائسهم ومؤامراتهم وحياتهم التي مرت مثل حلم سارب لم يبق منه إلا هذه الذكريات التي يتلصص عليها السائحون كلما عبروا بوابات تاريخ من كانوا هنا ومضوا.

التاريخ الإنكليزي لا يختبئ خلف العيب والحرام وما له حرمة الخصوصية، لذا يجد الباحث والسائح كل ما يريد معرفته من أسرار المكان وحياة من عاشوا فيه بكل صراحة ووضوح بدون إخفاء أو طمس أو تزوير أو تحريف أو تغير لأي جزئية أو معلومة عن حياة من كانوا فيه، بما فيها من فضائح أو نمائم خبيثة.

ومن القلاع التي زرتها هذا العام قلعة "بيتورث" العظيمة الممتدة بين تلال هزل مير وتلال سوري، وقلعة "سيدلي كاسل" الواقعة في منطقة جلوسترشاير، المحاطة بأراضي الطبيعة الجميلة للكوست ود، بنيت هذه القلعة في القرن 1135 لمالكها رالف بوتلر، ثم أخذها منه هنري الخامس حاكم انكلترا وأهداها لأخيه دوق جلوستر "ريتشارد الثالث" الذي اصبح فيما بعد ملكا لانكلترا، وبعد وفاته ستؤول ملكيتها للملك هنري الخامس، ومن بعده تصبح لزوجته السادسة الملكة "كاثرين بار" التي ستتزوج بعد وفاة الملك وستموت بالحمى بعد أسبوع من ولادتها لابنتها الليدي ماري سيمور، ومن ثمة تختفي الطفلة من القلعة بشكل غامض غير معروف، كذلك لا يُعرف موقع جثة الملكة كاثرين إلا بعد الحرب حيث عثر عليها مزارع، ثم تنقل لتدفن في الكنيسة الصغيرة الموجودة داخل القلعة، لتصبح الملكة الوحيدة المدفونة جثتها في قلعة.

وبما أن لكل قلعة حكاية درامية، من كل بد لها شبحها، فالقلعة "سادلي كاسل" أيضا لها أسطورتها التي تقول ان العاملين والمزارعين كلهم شاهدوا شبح الملكة كاثرين يدور في حدائق وأبراج القصر يبحث عن الطفلة المفقودة، وأن بعضهم شاهد شبح الملكة والطفلة يتجولان في الحديقة.

هي حكاية قلب أم مفجوع بفقدان طفلتها، وقصة حزينة لأم تموت وعمرها 34 بعد ولادتها، وزوج سوف يُقتل فيما بعد، وحيوات كثيرة ستتوارد فصولها الفرحة والحزينة بكل ما سيتخللها من كوارث الدسائس والمؤامرات التي تدور خلف جدران هذه القلاع التي يتوافد إليها آلاف الزوار في كل عام ليمضوا فيها ساعات قليلة من العمر ليتمتعوا برفاهية من امتلكها وعاش فيها سنوات عمره، لكنهم بالتأكيد لا يذوقون مرارة وتعاسة من امتلكها.

ربما يكون العيش حتى ولو لساعات قليلة في داخل هذه القلعة المليئة بتراث قرون عديدة منذ زمن الإمبراطورية الرومانية، بعد عصر المسيح عليه السلام بقليل، أمر يستحق الزيارة حتى لو كانت المسافة بعيدة، فليس تاريخ "سادلي كاسل" وحده يستحق المشاهدة بل كل حدائقها المدهشة المقسمة إلى مجموعات من حدائق مختلفة التخصصات، فيها حديقة الفواكه وأشجار الزينة، والحديقة السرية وشجيرات الورد الإنكليزية، وحديقة النباتات الطبية التي أمر بإنشائها الملك هنري الخامس لعلاج إصابات الجنود، ومشتل النباتات العطرية، ومشتل نباتات الطبخ والسلطة، والأهم منها كلها هو أشجار التوت المسمى بـ"المالبري" التي أمرت بزراعتها الملكة كاثرين بور، هذا النوع هو ألذ أنواع التوت وأفضلها لكنه أصبح نادرا الآن، ولم تعد زراعة أشجاره الضخمة لها وجود إلا في بعض القلاع والقصور التاريخية.

ولا يبقى من تاريخ من عاش فيها إلا بقاياهم التافهة مثل رقعة قماش صغيرة من ثوب الملكة، ومرحاض ومغسلة حمامها، لتشهد أن أعطب ما في الكون هو الإنسان، فهو بكل جبروته وتوقد فكره، لم يستطع بقاؤه أن يوازي بقاء رقعة قماش أو مرحاض.