اتفاق جنيف... الخاسر لم يظهر بعد

نشر في 01-12-2013 | 00:01
آخر تحديث 01-12-2013 | 00:01
 ياسر عبد العزيز ثمة أربعة سيناريوهات حكمت الملف النووي الإيراني منذ أظهرت طهران عزمها الصارم على استكمال مشروعها النووي المثير للجدل؛ أولها أن تنجح الجمهورية الإسلامية في تطوير سلاحها الذري، ومن ثم تدخل في ترتيبات مع الولايات المتحدة والمعسكر الغربي كتلك التي جرت مع الاتحاد السوفياتي السابق، فيتم الاعتراف بإيران قوة نووية، ويتم بناء نظام ردع متين لاحتوائها وفق ضمانات محددة، فيما تُمنح في المقابل حزماً من المزايا؛ بعضها في الاقتصاد، وأخطرها أدواراً مميزة في الهيمنة الإقليمية.

السيناريو الثاني كان يتحدث عن نجاح الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين في إثناء طهران عن عزمها الماضي، اعتماداً على حصول تغيرات فارقة في بنية النظام الإيراني، تسمح بالتخلي عن الطموح النووي، أو امتثالاً للردع الخشن، ورغبة في حصد مكاسب متاحة على صعد التقنية والاقتصاد والدور الإقليمي، وقبلها جميعاً ضمانة لا تقبل النقض بالتوقف عن زعزعة النظام الإسلامي، وفك عزلته، ودمجه في المنطقة والعالم.

السيناريو الثالث تعلق بفشل المحاولات الدبلوماسية والإغراءات كافة في ثني طهران عن مشروعها النووي، في ظل تكرس مكانة المحافظين في الحكم، والتطلع الآسر للجمهورية الإسلامية إلى امتلاك القوة النوعية والمنعة الاستراتيجية، التي تتيح لها الخروج من حال الإحساس بالاستهداف والتربص، والتخلص من الإحساس بالذل التاريخي والمظلومية الشيعية، واستخدام قوتها الصلبة المتمثلة في بنيتها الاقتصادية والتسلحية التقليدية وتموضعها الجغرافي وحلفائها الإقليميين، وقوتها الناعمة المتمثلة في الإعجاب الطاغي بنظامها وعنادها وطموحها وتناقضها الظاهر مع الدولة العبرية المتجبرة والظالمة. وهنا تبني الولايات المتحدة تحالفاً أوثق وأوسع طيفاً من ذلك الذي طورته لحربها على أفغانستان والعراق، وتوجه ضربة للجمهورية الإسلامية تضمن، في حدها الأدنى، إيقاف مشروعها النووي العسكري المزعوم، ولو إلى حين. أما السيناريو الرابع فيختص بعملية تقوم بها إسرائيل بالوكالة عن الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين وبالأصالة عن نفسها، باعتبار أنها "المستهدف الرئيس بالسلاح النووي الإيراني"، على الأقل كما يظهر من الهجوم الإيراني المطرد على ممارساتها ووجودها في الأساس.

فأين يقع اتفاق جنيف الأخير، الذي وقعته إيران مع الدول الست الكبرى، الأسبوع الماضي، من تلك السيناريوهات الأربعة؟

إن اتفاق جنيف يمثل سيناريو خامساً، مفاده: تجميد الصورة، والتقاط الأنفاس، وإعطاء الفرصة للمقاربة السلمية... إلى حين.

تعني "خطة العمل المشتركة"، التي تم التوصل إليها أن إيران ستوقف لأول مرة برنامج التخصيب المستمر لسنوات دون رادع لفترة الأشهر الستة التي يغطيها الاتفاق، لاسيما التخصيب لدرجة 20 في المئة، كما أنها وافقت بموجب الاتفاق على تحويل 200 كيلوغرام من اليورانيوم المخصب إلى أكسيد، ليقتصر استخدامه على محطات توليد الطاقة الكهربائية، ولن يكون بوسع طهران استغلاله لتصنيع رأس نووي.

ومع أن إيران ستواصل أنشطة التخصيب لما دون 5 في المئة، فإن مفاعلاتها ستكون خاضعة لمراقبة مشددة، حيث نص الاتفاق على إخضاع منشأتي التخصيب الرئيستين في "ناتنز" و"فوردو" لتفتيش يومي يجعل من الصعب على إيران مراوغة المجتمع الدولي، أو القيام بأنشطة مريبة. ولعل الأهم هو وقف العمل في محطة "آراك" للماء الثقيل الذي يوفر طريقاً ثانياً لحصول إيران على القنبلة النووية من خلال البلوتنيوم، وهو ما صار متعذراً الآن بمقتضى الاتفاق الأخير.

وإزاء هذه التنازلات التي قدّمتها القيادة الإيرانية، تعهدت القوى الدولية بالامتناع عن فرض عقوبات جديدة طوال الستة أشهر المقبلة، كما ستستفيد إيران من تجميد بعض العقوبات، لاسيما تلك التي تطال مبيعات النفط واستيراد قطع غيار السيارات والطائرات المدنية، هذا في الوقت الذي تستمر فيه المفاوضات الدولية على أمل التوصل إلى اتفاق دائم يرضي الأطراف جميعا، ويمكن تسويقها للأطراف الدولية الرافضة للاتفاق، مثل إسرائيل. يمثل اتفاق جنيف الأخير حالة فريدة بين الاتفاقات الدولية؛ فهو الاتفاق الذي يمكن أن يوصف بأنه "اتفاق رابحين"، بمعنى أن كلا الطرفين المعنيين به خرج بشعور الرابح. فقد رفعت إيران سيف العقوبات المصلت على رقبتها. صحيح أنها لم تنجح في إزالة العقوبات كافة، لكنها أزالت قدراً منها. والأهم من ذلك، والأكثر حيوية واستراتيجية، أنها انتزعت للمرة الأولى الاعتراف الدولي بحقها في تخصيب اليورانيوم لأسباب سلمية، وهو أمر لم تكن قادرة على إقناع العالم به. وفي المقابل، فإن المجتمع الدولي استطاع أن يضع قيوداً قوية وصارمة على أي محاولات من جانب إيران لتوسيع مشروعها النووي ليخدم الجانب العسكري.

لا تعطينا إيران الضمانات الكافية عادة للتأكد من نواياها، وكثيراً ما تقول الشيء وتفعل عكسه، وقد سبق أن أرهقت الدول الكبرى في ماراثونات تفاوض عبثية لم تفض إلى شيء، لكنها هذه المرة باتت تحت المجهر، وسيُمكّن اتفاق جنيف الأطراف المعنية من متابعة برامجها النووية وإخضاعها للفحص المستمر، وفق القيود التي تم الاتفاق عليها والالتزام بها. حصلت الدول الكبرى على مكاسب من هذا الاتفاق، أهمها بالطبع يكمن في إبعاد شبح الحرب ولو لمدة ستة أشهر، إضافة إلى إيجاد وسيلة يمكن باتباعها السيطرة على تطور البرنامج النووي الإيراني.

من الخاسر إذن من هذا الاتفاق؟

رغم أن نتنياهو وصف الاتفاق بـ"الخطير والسيئ"، فإنه من الصعب جداً اعتبار أن إسرائيل خاسرة من هذا الاتفاق؛ إذ جنبها مخاطر خيار الحرب، ولو لفترة مؤقتة، ووضع البرنامج النووي الإيراني في قفص سيكون من الصعب الخروج منه. ليس هناك أيضاً ما يدعو إلى اعتبار أن دول الخليج العربية خاسرة من هذا الاتفاق؛ فقد أبدت تلك الدول ترحيبها بالاتفاق مبدئياً، رغم أن السعودية أظهرت نوعاً من التشكك، حين رهنت نجاح الاتفاق بحسن النوايا. أرادت السعودية التلميح إلى إمكانية نكوص إيران عن تعهداتها، والعودة إلى الممارسات السلبية ومحاولات التملص من الالتزامات، إضافة إلى استعراض القوة والرغبة في التوسع والهيمنة، والتدخل في شؤون الجيران. البحرين أيضاً أظهرت قدراً من الحذر؛ إذ أعلنت على لسان وزير داخليتها الشيخ راشد بن عبدالله آل خليفة، أنها تريد أن تكون واثقة من أن الاتفاق "لن يكون على حساب أي من دول مجلس التعاون الخليجي، ولن يكون على حساب التعاون الخليجي". لكن هذا الحذر المشوب بقدر من الارتياب لا يمكن تفسيره على أنه إحساس بالخسارة.

سيكون من الصعب جداً تصور أن إسرائيل كانت بعيدة عن تفاصيل هذا الاتفاق، وسيكون من الصعب جداً تصور أنه أُبرم من دون إحاطة كافية لدول الخليج العربية، ورسائل طمأنة. ستكشف الأيام المقبلة بعض البنود غير المعلنة في اتفاق جنيف؛ إذ لا يمكن تصور أن الموضوع السوري مثلاً لم يكن جزءاً من هذا الاتفاق. لقد قام وزير الخارجية الإماراتي الشيخ عبدالله بن زايد بزيارة لطهران، حيث التقاه الرئيس روحاني، الذي قال إنه يأمل تطوير العلاقات بين البلدين من جهة، وبين إيران ودول مجلس التعاون الخليجي من جهة أخرى. لم تكن دول الخليج العربية لترحب بالاتفاق لولا أنها أحيطت علماً بمراحله وخطوطه الأساسية، وحصلت على قدر من التطمينات، ولم يكن عبدالله بن زايد ليفتح تلك الصفحة مع إيران، التي تحتل الجزر الإماراتية الثلاث، لولا أن هناك قدراً من الترحيب بالاتفاق، باعتباره محاولة لإبعاد شبح الحرب، وتجميداً للسعي الإيراني الحميم نحو تطوير المنظومة النووية لاستخدامها في الأغراض العسكرية.

لكن عدم ظهور الخاسر حتى اللحظة الراهنة لا يعني أبداً أنه لا يوجد خاسر. والأمل ألا يكون هذا الخاسر هو دول الخليج العربية، سواء في حال انقلبت إيران على الاتفاق وماطلت في تنفيذ التزاماتها، أو في حال استقوت بالاتفاق، وبدأت في تفعيل خططها للهيمنة على المنطقة وجني الثمار.

* كاتب مصري

back to top