معركة بوتين وطموحاته

نشر في 07-03-2014
آخر تحديث 07-03-2014 | 00:01
 بروجيكت سنديكيت إن استيلاء روسيا على شبه جزيرة القرم لهو المثال الأكثر تجرداً ووضوحاً للعدوان في وقت السِلم الذي شهدته أوروبا منذ غزت ألمانيا النازية منطقة سوديتلاند في عام 1938. وربما كان من المعتاد أن نستخف بدروس ميونيخ، منذ قرر نيفيل تشامبرلين وإدوار دالادييه استرضاء هتلر والإذعان لمطالبته بالسيادة على تشيكوسلوفاكيا. ولكن إذا أذعن الغرب لضم شبه جزيرة القرم- المرة الثانية التي يسرق فيها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من أراضي دولة ذات سيادة، بعد استيلاء روسيا على إقليمي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية في جورجيا عام 2008- فإن الزعماء الديمقراطيين اليوم سوف يندمون حتماً على تقاعسهم.

كانت ردود الأفعال في العواصم الغربية مختلطة حتى الآن، والعقوبات التي يجري النظر فيها الآن- طرد روسيا من مجموعة الثماني على سبيل المثال- كانت لتثير الضحك لو لم يكن تهديد السلام في أوروبا خطيراً إلى هذا الحد. إن بوتين ينظر إلى تفكك الاتحاد السوفياتي باعتباره الكارثة الأعظم في العصر الحديث، وقد سعى دون كلل أو ملل إلى إعادة تشكيل إمبراطورية روسيا المفقودة. وإذا كان الغرب عازماً على إرغام روسيا على أخذه على محمل الجد فيتعين عليه أن يكون حاسماً في تصرفاته، تماماً كما كان بوتين.

الواقع أن النجاحات العديدة التي حققها بوتين في مشروعه الإمبراطوري تأتي دون تكلفة تقريباً، فقد طوقت جماعته الاقتصادية الأوراسية دولاً غنية بالطاقة مثل كازاخستان وأوزباكستان وتركمانستان تحت مظلة المعسكر الروسي. وقُطِّعَت أوصال جورجيا في عام 2008، وأرغِمَت حكومة أرمينيا على رفض عرض الاتحاد الأوروبي بإبرام اتفاقية شراكة معها.

والآن ها هي ذي الجائزة الأكبر على الإطلاق- أوكرانيا- تكاد تقع بين أيدي بوتين، فهي بدون أوكرانيا، كما كتب مستشار الأمن القومي الأميركي السابق زيبغنيو بريجنسكي، "لن تكون إمبراطورية، ولكن روسيا مع أوكرانيا، بعد رشوتها ثم إخضاعها، تتحول تلقائياً إلى إمبراطورية". ولأن الأغلبية العظمى من الأوكرانيين لا يرغبون في الانضمام إلى إمبراطورية بوتين فمن الواضح أن الدولة التي سيقودها بوتين من هذه النقطة فصاعداً ستكون دولة معسكرة إلى حد كبير، على نحو أشبه بالاتحاد السوفياتي ولكن في غياب الحزب الشيوعي الحاكم.

ونظراً لحجم المغامرة التي يخوضها بوتين، فإن استجابة العالم لابد أن تكون متناسبة معها، ولن يكون إلغاء القمم أو الاتفاقيات التجارية أو العضوية في محافل الأحاديث الدبلوماسية مثل مجموعة الثماني كافياً. فالإجراءات التي تفرض عقوبات اقتصادية ملموسة تؤثر في المواطنين الروس- الذين صوتوا لمصلحة اعتلاء بوتين للسلطة أكثر من مرة- هي وحدها القادرة على تقديم أي أمل في توجيه الكرملين بعيداً عن مساره التوسعي. ولكن ما العقوبات التي قد تفلح في تحقيق هذه الغاية؟ أولاً، يتعين على تركيا أن تغلق مضيق الدردنيل أمام الشحن البحري الروسي، كما فعلت بعد الحرب الروسية الجورجية في عام 2008. في ذلك الوقت، أغلقت تركيا المنفذ إلى البحر الأسود لمنع الولايات المتحدة من التدخل، رغم أن الولايات المتحدة كما بات الآن واضحاً لم تكن لديها النية للتدخل. والآن ينبغي لها أن تغلق المضيق التركي ليس فقط أمام السفن الحربية الروسية، بل أيضاً كل السفن التجارية المتجهة إلى موانئ روسيا على البحر الأسود. وسوف يكون تأثير ذلك على اقتصاد روسيا- وعلى طموحات بوتين العسكرية- كبيراً.

إن تعديل عام 1982 لمعاهدة مونترو المبرمة عام 1936 يسمح لتركيا بإغلاق مضيق الدردنيل، والواقع أنها تستطيع أن ترد على ذريعة بوتين للاستيلاء على شبه جزيرة القرم- حيث يزعم أنه يحمي المنتمين إلى العرق الروسي هناك- من خلال الزعم بأنها تحمي ذوي القربى من التتار الأتراك، الحريصين على البقاء تحت الحكم الأوكراني نظراً لسوء معاملة روسيا لهم في الماضي.

في هذا الأسبوع، غيَّر وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو وجهة طائرته في الهواء للذهاب إلى كييف لتقديم المساعدة للحكومة الانتقالية الجديدة هناك، ويتعين على رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان، وهو ذاته ليس بالرجل السهل كما يدرك بوتين جيداً، أن يعمل على إتمام بادرة الدعم هذه بإغلاق المضيق أمام الشحن الروسي على الفور- إلى أن يعيد بوتين كل قواته في شبه جزيرة القرم إلى قواعدها في سيفاستوبول أو غيرها من القواعد في روسيا. وينبغي لتركيا أن تحصل على ضمانة المادة الخامسة من حلف شمال الأطلسي إذا سعت روسيا إلى إرهابها.

وثانياً، يتعين على الرئيس الأميركي باراك أوباما أن يفرض على روسيا ذلك النوع من العقوبات المالية التي فرضها على إيران بسبب برنامجها النووي، وقد نجحت هذه العقوبات في إصابة اقتصاد إيران بالشلل. وعلى نفس النحو فإن حرمان أي بنك يتعامل مع بنك أو شركة روسية من الوصول إلى النظام المالي في الولايات المتحدة من شأنه أن يخلق نوعاً من الفوضى الاقتصادية التي شهدتها روسيا آخر مرة بعد سقوط الشيوعية مباشرة. ولابد أن يفهم المواطنون الروس العاديون أن السماح لبوتين- الذي كان سعيه إلى الزعامة مبنياً في المقام الأول على الوعد بإنهاء الفقر المدقع الذي شهدته السنوات الأولى التي أعقبت سقوط الاتحاد السوفياتي- بالاستمرار في شن عدوانه الإمبراطوري سوف يكلفهم غالياً.

ثالثاً، يتعين على أوباما أن يؤكد للصينيين مصلحتهم في استقرار منطقة أوراسيا، ولعل بوتين ينظر إلى تفكك الاتحاد السوفياتي باعتباره مأساة، ولكنه بالنسبة إلى الصين كان بمنزلة الهبة الجيو-ستراتيجية الأعظم على الإطلاق. فبين عشية وضحاها، اختفت ببساطة الإمبراطورية التي سرقت الملايين من الهكتارات من الأراضي الصينية على مدى قرون من الزمان، والتي هددت جمهورية الصين الشعبية بالفناء النووي.

منذ ذلك الوقت، أصبحت دول آسيا الوسطى المستقلة، حتى أوكرانيا، من الشركاء التجاريين المهمين بالنسبة إلى الصين. وقد تسببت غزوات روسيا في جورجيا في إثارة استياء الصين إلى حد كبير، كما رأينا بعد الحرب في قمة "منظمة شنغهاي للتعاون" (التجمع الإقليمي الذي يضم دولاً سوفياتية سابقة تشترك في الحدود مع الصين وروسيا). وقد دفعت روسيا "منظمة شنغهاي للتعاون" إلى الاعتراف باستقلال أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، لكن المنظمة رفضت. وما كان لبلدان المجموعة من آسيا الوسطى-  كازاخستان وقيرغيزستان وطاجيكستان وأوزبكستان- أن تتمكن من الوقوف في وجه الكرملين لولا دعم الصين لها.

لكن اليوم، ينبغي للرئيس الصيني شي جينبينغ أن يكون أقل إبهاماً في الرد على مغامرات بوتين، والواقع أن الاختبار الحقيقي لزعم الصين بأنها شريكة مسؤولة في المجتمع العالمي سوف يأتي قريباً في الأمم المتحدة، فهل تدعم استهزاء بوتين الواضح بالقانون الدولي، أم أنها ستدعم سلامة أوكرانيا الإقليمية؟ وهناك تدابير عقابية أخرى محتملة، فمن الممكن إلغاء تأشيرات الدخول لكل المسؤولين الروس، ومن الممكن تجميد الأصول، خصوصاً تلك التي يغسلها أنصار حكم القِلة من المقربين إلى بوتين. وفقط عندما يصبح الألم غير محتمل، خصوصاً ألم النخبة، فسوف يخسر بوتين معركته.

إن تكلفة التقاعس عن التحرك باهظة، والواقع أن عدداً لا يحصى من البلدان، من اليابان إلى إسرائيل، تعتمد على التزام أميركا بالعمل بقوة ضد الانتهاكات الخطيرة للسلام. وعلاوة على ذلك، عندما سلمت أوكرانيا أسلحتها النووية في عام 1994، فإنها فعلت ذلك من منطلق فهمها الصريح لحقيقة مفادها أن الولايات المتحدة (والمملكة المتحدة وفرنسا وروسيا) سوف تضمن سلامتها الإقليمية. وإذا ضمت روسيا شبه جزيرة القرم فلا ينبغي لأحد أن يلوم أوكرانيا إذا سارعت إلى العودة إلى السلاح النووي لتعزيز دفاعاتها (وهي لا تزال تحتفظ بالقدرة التكنولوجية اللازمة للقيام بذلك).

عندما عاد تشامبرلين من ميونيخ، قال ونستون تشرشل، "لقد أُعطيتم الخيار بين الحرب والعار، وقد اخترتم العار وسوف تكون الحرب من نصيبكم". الآن يواجه أوباما وغيره من زعماء الغرب اختياراً مماثلا. وإذا اختاروا العار، فمن المؤكد أن بوتين الذي لم يجد رادعاً يردعه سوف يعطيهم في نهاية المطاف المزيد من الحرب.

* تشارلز تانوك | Charles Tannock ، منسق الشؤون الخارجية لتكتل المحافظين والإصلاحيين الأوروبيين في البرلمان الأوروبي.

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top