منذ اندلاع الحرب الهمجية على قطاع غزة من قوات الاحتلال الصهيوني التي مر عليها أكثر من عشرين يوماً، وأنا أحاول أن أجمع شتات نفسي، شتات جسدي كله وليس عقلي ويدي وعيني، أحاول أن أجمع ذكرياتي وأحلامي وطموحاتي وأوالف بينها لعلني أصل إلى صورة تقنعني بأن الذي يجري بيد بشر يعيشون على سطح هذا الكوكب الذي جمع كل أنواع المخلوقات والجماد، ولم نر أو نسمع بمثله يحل بقطعة أرض لا تزيد مساحتها على 150 ميلا مربعا يعيش عليها نحو مليونين من البشر الصامدين منذ سنوات على حصار من الأعداء والأصدقاء، وممن يدعي "الأخوة"!! أنه يستحق كل هذا الدمار والخراب وكأن الروح الإنسانية شيء تافه لا قيمة له!

Ad

صـمْـتُ أكثر دول العالم- والذي لم نراهن عليه يوما واحداً على أنه رأي قائم على الحق- ظهر بشكل بشع، وكشف عن زيف وجهه وهو يضع الضحية التي اغتصبت أرضها منذ أكثر من خمسة وستين عاما، وحوصرت سنوات أمام أعين العالم، يضعها أمام مغتصب مدجج بأقوى الأسلحة المتقدمة زودته بها دول عظيمة تتشدق بالعدل والديمقراطية وتميل كل الميل إلى جانبه.

لن يفيدنا الدخول في تفاصيل يعرفها القاصي والداني لكننا سنسلط الضوء على وسائل الإعلام التي تتناقل أخبار هذه الحرب غير المسبوقة:

الوسائل الغربية في جلها مملوكة أو تتبع أو تتبنى وجهة النظر الصهيوينة، إما عن قناعة وإما عن خوف ممن يملكون هذه الوسائل التي يمكنها أن تحجب أي حقيقة بقدرات وإبداع المنسقين فيها لأي خبر مهما كان صغيرا، وتطويعه بما يخدم مصلحتها وفي الاتجاه الذي يريدونه.

لذلك فهذه الوسائل الإعلامية تميل كل الميل إلى كفة قوات الاحتلال نحو تضليل الرأي العام العالمي الذي تم ترويضه منذ سنوات بعيدة، ولعلنا نقول من قبل قيام الكيان الصهيوني، وتم رسم صورة لهذا الكيان رسخت في أذهان الكثيرين ممن ليسوا قريبين من أصل القضية التي قامت من أجلها كل حروب المنطقة منذ الحرب العالمية الأولى ولها امتدادات تاريخية تسبق هذا التوقيت.

في الحرب الدائرة حتى كتابة هذا المقال على أرض غزة نتابع وسائل الإعلام الغربية فنجدها تعطي صورة (وبالصورة) للمشاهد لكل ما حل بغزة من دمار وترويع للناس، وقتل للأطفال وتشريد لعائلات وقتلها بالكامل بنبرة (إخبارية بحتة) وصور لصواريخ المقاومة في اتجاه الأرض المحتلة، ولا تنسى هذه الوسائل التذكير بأن "حماس" هي التي تطلق هذه الصواريخ على "الآمنين من المدنيين الصهاينة"! وترفق كل هذا بصورهم في الملاجئ المجهزة بالوسائل الوقائية، متجاهلة أن الذي يقاوم جيش الاحتلال هو المقاومة الفلسطينية بمعظم تنظيماتها، ولكن الغرض واضح وبتركيز شديد!

ولا تنسى هذه الوسائل تذييل الخبر بأن هؤلاء المدنيين معرضون للقتل بيد "إرهابيين" لا يريدون الحياة لهم على أرضهم التاريخية المزعومة، والعاقل المتابع يصاب بخيبة أمل من هذا التناقض في تناول أخبار هذه الحرب الضروس، فكيف لصاروخ مصنع محليا أو تم الحصول عليه بطريقة ما وسط الحصار المحكم أن يقوى على تدمير أو قتل عدد كبير من المدنيين وهو موجه إلى مواقع عسكرية تعمل بكل التقنيات لتغيير مساره (القبة الحديدية)، في الوقت الذي تحمل فيه الأخبار أنه سقط في منطقة غير مأهولة؟! ولا مقارنة بينه وبين الصواريخ الموجهة بالرادارات الحديثة من الطائرات والمدافع والبوارج البحرية إلى بيوت المدنيين من الأطفال والنساء والشيوخ وترحيل السكان في غزة إلى أماكن أخرى لا تبعد سوى أمتار عن مكان إقامتهم. فغزة كلها لا تزيد مساحتها على 150 ميلا كما ذكرنا، وهي غير مجهزة بالملاجئ، ولا أماكن تؤوي الهاربين من جحيم الحرب، ولم يصدر أي بيان باستشهاد أي من رجال المقاومة التي يتضح أنها استفادت من تجاربها السابقة في مواجهة العدو.

الإعلام حرب أخرى توجه إلى شعبنا العربي في غزة بل في كل فلسطين؛ لأن القضايا الفرعية أيضا (الأسرى-الاستيطان- التهجير... إلخ) تُرسم صورتها للرأي العام بالشكل الذي يتوافق مع رؤية العدو.

وماذا عن إعلامنا العربي؟

ونحن نتناول هذا الموضوع لا نضع رؤوسنا في التراب ونكشف مؤخرتنا للريح وسهام الأعداء!! إعلامنا العربي بكل أشكاله يتم تجييشه لغير مصلحة القضية، ويتم تغيير مساره الصحيح أو الواجب القيام به إلى غير وجهته السليمة، إما بشراء أشخاص ليقوموا بالدور أو من خلال توجيهات حكوماته التي ترى أن مصلحتها تكمن في "الأنا" غير العربية، وفي المصلحة البحتة خارج الدائرة العربية خوفاً من عقاب ينتظر هذه الحكومات وقادتها!!

من المؤسف أن تظهر بعض القنوات وأصحابها بشكل سافر معلنة ولاءها للعدو التاريخي للأمة العربية رغم كل الشرور التي يبثها في الوطن العربي كله، وهم على علم بذلك، الأمر الذي يجعلنا نميل إلى أنهم أدوات له تم زرعها في جسد الإعلام العربي المهلهل أصلا لأسباب من أهمها الافتقار إلى الذكاء الإعلامي في طرح القضايا الجوهرية في حياتنا، ولعل المشاهدين المتابعين للكثير من هذه القنوات يدركون ويتفهمون أن "الصراخ والضجيج" عبر مناقشة القضايا الحيوية هو الأعلى، فكيف لنا أن نصل إلى تحديد اتجاهاتنا الصحيحة بدون بوصلة سليمة يـنـظـر فيها مثل هؤلاء الغوغائيين الذين يطلون علينا من الفضائيات الرخيصة والتي باتت مكشوفة للجميع؟!

إعلامنا ممزق ومشرذم مدعوم برأس مال عربي وغربي، وإعلامهم موجه رغم تضليله لكنه مضبوط على خط مرسوم يحقق للعدو مصالحه ويدخل بيوتنا ليمزق أفكارنا ويزرع بيننا الشقاق.

السؤال القديم جداً هو: ماذا لو تم وبنية خالصة تخصيص عدد كبير من فضائيات ذات مصداقية عالمية، وبكفاءات عربية مخلصة تقدم الصورة النقية والسليمة عن الشعب العربي في كل البلاد العربية، وتسخيرها لإرسال رسائل صحيحة إعلاميا إلى العالم بأحقية شعبنا الفلسطيني في أرضه بدلا من هذا الطوفان من القنوات الرخيصة المحتوى والمضمون، وكلنا يعرفها؟

نملك رأس المال، والخبرات، والمكان! لكننا لا نملك القرار، هذا هو الجواب الصعب للسؤال الأسهل، فمتى سيتحرر المواطن العربي من أنانيته التي فرضت عليه وألبسته ثوب "الأنا" بدلا من "نحن"؟.

إذا استيقظ العقل العربي ذات يوم كما ظننا في ثوراته القريبة التي تم سحبها من تحت قدمية وتفتيت نتائجها،

فعندها سنكون قد وضعنا أقدامنا على بداية طريق جديد بمنهج جديد ورؤية جديدة من المؤكد أنها ستكون على الوجهة الصحيحة، فهل سننتظر طويلا كي تتغير صورتنا أمام العالم الذي لن يرضى عن أي حق لنا إلا بقوة تماسكنا وكلمتنا والالتفاف حول شرعية مطالبنا التي اختصرناها بأنفسنا إلى أقل القليل؟!

الوقت حتى الآن ليس في مصلحتنا، وكل الشواهد تقول إننا نسقط نحو القاع ببطء، إلا من معجزة في زمن لا معجزات فيه.

* كاتب فلسطيني - كندا