استوديو بعلبك أحد عشرات المرافق اللبنانية التي ضربها الإهمال والتعسف والقتل والهدم، حتى بات لبنان يجرد من ذاكرته وماضيه من دون اللجوء إلى توثيق هذه الذاكرة. استوديو بعلبك اسم طالما تباهى به بعض اللبنانيين ورثوه، ولكن الرثاء في بعض جوانبه كان مبتذلاً ولفظياً، بصرف النظر عن حسن النيات، فهذا المرفق بقي مقفلاُ ومهملاً إلى حين أتى الجلاد الباطون المسلح.
استوديو بعلبك ضمن مرافق الذاكرة اللبنانية التي تنتهك وتدمر بفعل التحولات السياسية والجشع العمراني والترهل الثقافي، ففي السادس من آذار 2010، نقلت إحدى الصحف اللبنانية أن وزير الثقافة، آنذاك، طلب من محافظ جبل لبنان وقف أعمال الهدم في استوديو بعلبك، في حرج تابت، لترسل الوزارة بعثة للتأكد من طبيعة المبنى ومحتوياته وما إذا يمكن تصنيفه بالأثري والتراثي. جاء طلب الوزير بعد فوات الأوان، ففي هذا التاريخ {كان السيف قد سبق العذل}، بحسب تعبير لقمان ومونيكا، وكانت البقية الباقية من موجودات استوديو بعلبك قد تفرقت أيدي سبأ. وجاءت المراثي والأطلال على استوديو بعلبك بحد ذاتها متأخرة، فاستوديو بعلبك، كما يقول مؤلفا الكتيب، لم {يغتل} بطلقة غادرة من الخلف، ولا {استشهد} شهادة الأبطال، استوديو بعلبك قضى أنفه من بعد مرض موت طويل، اقفال وإعادة فتح. وكان إيجابياً من أمم للتوثيق والأبحاث، أنها تمكنت، لقاء بدل مادي، من الاستحازة، على شطر من محتويات استوديو بعلبك، قوام هذا الشطر عدد من الأشرطة المسجلة بالصوت أو الصورة، وقدر من الوثائق الورقية، لفهرستها ووضعها بتصرف المهتمين، وذلك في إطار السعي إلى إنقاذ ذاكرة لبنان، بوصفها أحد وجوهه الشتى.وبحسب المعلومات والصور الواردة والمنشورة في الكتيب، فهي تشهد ألا مبالغة البتة في وصفها بالمنجم الواعد، وهي تبين طرائق العمل في تلك المرحلة وناسه ومفاتيحه وبعض نهفاته واجتماعياته، منها مذكرة داخلية موجهة إلى إدارة استوديو بعلبك تحت العنوان العام: {علاقات عامة}، يقترح صاحب هذه المذكرة أن ترسل {سلة زهور إلى الآنسة سميرة توفيق، بطلة فيلم بدوية في باريس، التي جرحت خلال تصوير الفيلم، ولا تزال ترقد في المستشفى}. كلنا فدائيونوثمة شواهد ينبغي التذكير بها وتدلّ على مسار استوديو بعلبك خصوصاً والثقافة اللبنانية عموماً، فإنشاء استوديو بعلبك، في الستينيات من القرن الماضي، كان على يد الفلسطينيين رجل الأعمال بديع بولس والمصرفي الغامض يوسف بيدس، وكان للإيطالي جيوردانو بيدوتي، وللسوري جوزف فهده، وللعراقي المولد الأرمني اللبناني معاً غاري غرابديان، أيادٍ بيض في هذا الاستوديو، وهذا إشارة الى أن الثقافة اللبنانية في تلك المرحلة كانت مزيجاً من ثقافات عربية وأجنبية، بل لبنان الثقافي كان متشكلاً من مجموعات ثقافية وموسيقية أتت من العراق وفلسطين وسورية وحتى مصر وأرمينيا واليونان...والحدث الأبرز في مسار استوديو بعلبك كان ليلة التاسع والعشرين من أيلول 1968، إذ دوى انفجار في ملهى ليلي، {ستريو} بلغة ذلك الزمان، في منطقة الحازمية، كان في عداد قتلى هذا الانفجار المخرج الأرمني غاري غرابديان، أحد أبرز وجوه استوديو بعلبك. لم يكن الانفجار عملا تخريبياً، إنما أحد مشاهد فيلم {كلنا فدائيون} الذي تدور قصته حول مجموعة من الفدائيين يمارسون أعمال التحرير في الأرض المحتلة. انفجر الملهى الليلي، ومات المخرج ولكن الفيلم لم يتوقف، فكان انجازه على أيدي آخرين، واستقبلته الصالات، وسرعان ما تحول إلى مورد نزاع قانوني بين الورثة ومن عدادهم استوديو بعلبك، في ردهات قصر العدل. ومن وبين وثائق استوديو بعلبك الكثير مما يتعلق بالمخرج الراحل.في أواخر الستينيات من القرن الماضي، ألقت الثورة الفلسطينية عصاها في لبنان، وليس من المدهش، على الإطلاق، أن يكون إعلام هذه الثورة المرئي والمسموع قد توسل خدمات استوديو بعلبك والتقنيات المتوفرة لديه. ومن ألطف الوثائق التي استنقذها فريق أمم من ركام مبنى استوديو بعلبك، مجموعة مراسلات يعود تاريخها إلى أواخر {حرب السنتين} يطلب فيها زبائن استوديو بعلبك الفلسطينيون(بسام أبو شريف نموذجا) من إدارة استوديو بعلبك تسليمهم الأفلام العائدة لهم والموجودة في الاستوديو لدواعٍ أمنية، للتذكير، سن الفيل، كانت وفق جغرافيا الحرب إحدى قلاع {الانعزالية}.جرم صغيرويضيف صاحبا الكتيب: {لا يبالغ هاوي الأثريات والأنتيكا والنمائم المعتقة إن بدا له أرشيف استوديو بعلبك أشبه بحديقة غناء يحلو التنزه في أرجائها. استوديو بعلبك ليس ما صور وحمض من أفلام، وما سجل فيه من أغان، وكان واكب العمل الفني من اجتماعات لمجلس إدارته، ومن مراسلات، ومن نشاطات إدارية. استوديو بعلبك، علاوة على ذلك، جرم صغير من أجرام الامبراطورية بعث بها أحد كبار المنتجين الأميركيين، سي واينتروب، في 10 شباط 1966، إلى بيدس نفسه عقب لقاءٍ كان بينهما، وكان مداره بلورة شراكة بين مؤسستيهما لإنتاج فيلم تحت عنوان {اللعبة القاتلة}.يتابع صاحبا الكتيب: {لا أشدّ من عنوان هذا الفيلم، {اللعبة القاتلة}، لوصف صعود يوسف بيدس، شخصاً وإمبراطورية، وسقوطه... فبيدس رجل أعمال فلسطيني حقق نجاحاً باهراً في لبنان على رأس بنك إنترا حتى انهياره سنة 1966 في ظروف ما زالت إلى الآن مثيرة للجدل. ولد عام 1912 في مدينة القدس لعائلة أرثوذكسية أصيلة من مدينة الناصرة. وساهم في تأسس كازينو لبنان وطيران الشرق الأوسط».يوسف شاهينمن كنوز استوديو بعلبك مراسلات معظمها بين يوسف شاهين واستوديو بعلبك، فذات يوم من عام 2005 استقبلت دور السينما الفيلم البريطاني - الأميركي «ملكوت السماء» لمخرجه ريدلي سكوت. يومذاك كان يوسف شاهين ما زال على قيد الحياة، والأرجح أن عنوان هذا الفيلم عاد به القهقهرى عقوداً طويلة من الزمن، إلى العام 1966 حيث كان أحد نزلاء «فندق فرونتاك» المطل على جادة الشانزلزيه، منكباً على تحويل إحدى روايات أندريه شديد إلى نص سينمائي، مواكباً عملها على وضع سيناريو لفيلم تحت عنوان «ملكوت السماء»، حالماً باستقطاب أشهر الممثلات الفرنسيات للمشاركة في هذه المشاريع السينمائية.لم ينبت استوديو بعلبك على غفلة من الزمن، من زمن لبناني ما. فاستوديو بعلبك، بالمعنيين الحرفي والمجازي للكلمة، هو وريث «الشركة اللبنانية للتسجيلات الفنية»، في أواخر الخمسينيات. وفي 20 يونيو 1962 نشر المرسوم الرئاسي القاضي بالترخيص لتأسيس «شركة ستوديو بعلبك»، وينشر الكتاب استعادة لجملة من الوثائق ذات الصلة بهذه البدايات وبـ»الحياة اليومية» لاستوديو بعلبك.
توابل
«عن ستوديو بعلبك ومنازل لبنانية أخرى»... منجم الذاكرة الواعد
22-12-2013