مهزلة
"كالمستجير من الرمضاء بالنار"... إذْ إن من سخريات القدر في هذا الزمن الرديء أنْ يصل الإفلاس بالأمم المتحدة وأمينها العام بان كي مون إلى حدِّ إرسال الأخضر الإبراهيمي إلى طهران للاستنجاد بالقيادة الإيرانية وعلى رأسها المرشد الأعلى خامنئي لتليين موقف الرئيس السوري بشار الأسد واستدراجه لقبول استئناف مفاوضات جنيف على أساس قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2118، الذي نص على ضرورة تشكيل هيئة "حكومة" انتقالية كاملة الصلاحيات تشرف على كل الأوضاع في سورية إلى حين إجراء انتخابات تشريعية ورئاسية تضع البلاد على الطريق الديمقراطي والحريات العامة.والواضح من خلال هذا التوجه المستغرب فعلاً، أنَّ الأمم المتحدة، في ضوء هذا التقاعس الأميركي والتردد الأوروبي، قد وصل بها الإفلاس إلى حد الاستنجاد بالدولة التي تعتبر أن هذه الحرب المحتدمة في سورية هي حربها والتي لها قوات تقدر بعشرات الألوف تقاتل منذ اليوم الأول لانفجار هذه الأزمة إلى جانب بشار الأسد، والمؤكد أن بان كي مون ومبعوثه إلى طهران الأخضر الإبراهيمي يعرفان أن إيران لا يمكن على الإطلاق أن تكون وسيطاً، اللهم إلا إذا كان الأمين العام للأمم المتحدة يريد ترتيبات عسكرية وسياسية لاستسلام المعارضة السورية. وهذا غير وارد على الإطلاق، ولا يمكن أن يكون، ولا يجوز التفكير فيه حتى مجرد التفكير.
كان الأميركيون ومعهم الأوروبيون قد حالوا دون حضور إيران مؤتمر جنيف الأول ومؤتمر جنيف الثاني والحجة أن طهران التي تعتبر طرفاً رئيسياً في القتال لا يمكن أن تكون وسيطاً. والآن إذْ يرسل الأمين العام للأمم المتحدة مندوباً لاستجداء الوساطة الإيرانية فإن الإيرانيين سيجدون الفرصة سانحة لإملاء شروطهم التعجيزية على بان كي مون وليطالبوا باعتبار المعارضة السورية المسلحة مجرد مجموعات إرهابية يجب تقديم مطلب القضاء عليها على أي مطلب آخر. هناك كلام عن أنَّ الإيرانيين قد ردّوا على الإبراهيمي بالحديث عن مبادرة من أربع نقاط، والواضح أن هذه النقاط الأربع غير بعيدة عمَّا بقي الروس يتحدثون فيه، وهو أن المشكلة هي مشكلة الإرهاب وليس غير الإرهاب وهذه، كما هو معروف، معزوفة قد بادر نظام بشار الأسد إلى السعي لتسويقها منذ البدايات عندما تم قمع المظاهرات السلمية واللجوء إلى العنف الأهوج والقوة العسكرية التي استُخدمت خلال الأعوام الثلاثة الماضية بإفراط لا مثيل له وغير مسبوق حتى بالنسبة للمذابح الجماعية التي ارتكبها نظام بول بوت في سنوات سابقة من القرن الماضي.إنه غير ممكن أنْ يتصور إنسان عاقل أن تتحول إيران من طرف أساسي ورئيسي في هذه الحرب الظالمة التي يشنها بشار الأسد على الشعب السوري إلى وسيط محايد، وحقيقة أنَّ هذه الخطوة المثيرة للتساؤلات التي أقدم عليها الأمين العام للأمم المتحدة ليست معيبة فقط، بل أنها تدل على مدى الاستهتار بدماء مئات الألوف من السوريين. فالمفترض أنْ يطالب بان كي مون الإيرانيين بسحب قواتهم من الأراضي السورية، ووضع حدٍّ لتدخلهم الشائن في شؤون دولة عربية من المفترض أنها مستقلة وذات سيادة، وذلك قبل أن يتحولوا إلى وسيط يسعى لإصلاح ذات البين بين نظام لم يترك موبقة إلا ارتكبها وبين شعب كل ذنبه أنه انتفض للمطالبة بالحرية والديمقراطية.إنه غير مستبعد أن تقترح إيران رداً على مطلب الأمين العام للأمم المتحدة أن تتحول قوات حراس الثورة وفيلق القدس التي تقاتل على الأراضي السورية ومعها "داعش" و"الغبراء" وحزب الله وكل الشراذم الطائفية التي استُقدمت من العراق إلى قوات حفظ سلام، وأن يعلن بان كي مون رسمياً أن المعارضة المسلحة في سورية مجموعات إرهابية، وأنَّ الانتصار على هذه المجموعات سيكون بالتجديد لبشار الأسد رئيساً لسورية لأربعة عقود مقبلة... إنها مهزلة، وإنه لابد من وضع حدٍّ لكل هذا التلاعب المعيب بدماء الأبرياء من السوريين من أطفال ونساءٍ ومن رجال ثاروا على ظلم أهوج بقي مستمراً في بلادهم أكثر من نصف قرن.