«الصَّخَب والعُنف}: دُرَّة الرواية الأميركية، يعتبرها الشاعر رفعت سلام على صفحته على الفيسبوك إحدى روائع القرن العشرين النادرة. رواية فريدة، عصية على الاستهلاك، عسيرةٌ على الامتلاك؛ ضد السهولة والتقليدية والخفة في الإبداع والقراءة.

Ad

هو تعدد مستويات الوعي، وجغرافيات الشخوص، واللغة، مندمجين في بنية مُركَّبة، لا تعرف التحديد الزمني التقليدي، المستقيم والأفقي. وقد مُنح فُوكنر جائزة نوبل على {مساهمته القوية والفريدة فنيّاً في الرواية الأميركية الحديثة}. ويضيف سلام في وصف الترجمة الجديدة أنها مرهفة تتقصَّى ما وراء السطح اللغوي، من دون انتهاك غموضه الإبداعي، وتشابكاته المعقدة، لم يكن بقادر على إنجازها سوى مترجم قدير صبور، له رهافة وثقافة وخبرة المترجم محمد يونس.

 وليست المرة الأولى التي تترجم رواية {الصخب والعنف} إلى العربية، فسبق أن صدرت بتوقيع الناقد والروائي جبرا إبراهيم جبرا، وتعتبر إحدى الروايات الأكثر تأثيراً على الروائيين في العالم أو {رواية الروائيين}، كما يقولون.

والنافل أنه وفي سنة 1929 نجح فولكنر في نشر روايته «الصخب والعنف» بعد أن رفضها الناشرون في البداية والتي ترجمت إلى معظم لغات العالم الحية، علما أنها كانت الكتاب الخامس لفوكنر، استغرق 3 سنوات في كتابته. وفي السنة نفسها تزوج من أرملة وبقي يقطن البيت نفسه القديم الذي نشأ فيه منذ طفولته يكتب في الفترات الصباحية، وينجز الأعمال الأخرى في الأوقات الأخرى.  

مقطع من الرواية بترجمة جبرا ابراهيم جبرا

حزيران 1910

عندما سقط ظل عارضة الشبّاك على الستائر، كانت الساعة ما بين السابعة والثامنة، لقد أفقت إذن في الوقت المطلوب ثانية، وأنا أسمع الساعة. كانت تلك ساعة جدي، وعندما أهداني إياها أبي قال: كوينتين، إني أعطيك ضريح الآمال والرغبات كلها. وإنه لمن المناسب إلى حدّ العذاب أن تستخدمها لتكسب النهاية المنطقية الحمقاء لاختبارات الإنسان جميعها. وهي التي لن تنسجم وحاجاتك الشخصية أكثر مما انسجمت وحاجات جدك أو أبيه. إني أعطيك إياها لا لكي تذكر الزمن، بل لكي تنساه بين آونة وأخرى، فلا تنفق كل ما لك من نفس محاولاً أن تقهر الزمن. لأن ما من معركة ربحها أحد، قال أبي. لا بل ما من معركة حارب فيها أحد. فالميدان لا يكشف للمرء إلا عن حماقته ويأسه، وما النصر إلا وهم من أوهام الفلاسفة والمجانين. كانت الساعة مسندة إلى صندوق الياقة، وبقيت مستلقياً أصغي إليها. أي، أسمعها. فأنا لا أحسب أن أحداً يصغي إلى الساعة عن قصد. وهل بك حاجة إلى ذلك؟ إنك لتستطيع أن تغفل عن صوتها مدة طويلة، وإذا هي في ثانية من (التكتكة) تخلق في الذهن استعراضاً طويلاً متسلسلاً متلاشياً للزمن الذي فاتك أن تسمعه. وكما قال أبي لكأنك ترى المسيح يمشي على مدى أشعة الضوء المديدة الموحشة. وكذلك مار فرنسيس، ذلك القديس البار الذي كان يقول أيتها المنية يا أختي الصغيرة، دون أن تكون له أخت.

من خلال الجدار سمعت رقاص سرير (شريف) ثم نعليه وهما يشحطان على الأرض. فنهضت وذهبت إلى منضدة الزينة وتحسست بيدي صفحتها وأصبت الساعة، فقلبتها على وجهها وعدت إلى الفراش. غير أن ظل العارضة ما زال هناك، وكنت قد تعلمت أن أستدلّ به على الوقت بدقة تحدّد حتى الدقيقة، بحيث أضطرّ إلى أن أدير له ظهري وأنا أحس أن لي عيوناً كعيون الحيوانات التي كانت في مؤخر رؤوسها حين كان قذالها فوقها، تحكّ وتضطرب. فالعادات التي تأسف لها دائماً هي عادات الكسل والخمول. أبي قال ذلك. وقال إن المسيح لم يُصلب: إنما استهلكته قرقعة دواليب صغيرة. ولم تكن له أخت.

وهكذا، حالما أدركت أنني لا أستطيع أن أراه، جعلت أتساءل عن الوقت. وقد قال أبي إن التكهن المستمر بشأن وضع عقربين آليَّيْن على ميناء اعتباطي هو من دلائل وظيفة الذهن ليس إلا إفرازاً، كالعرق. هكذا قال أبي. وأنا أقول له: {لا بأس}. وأعجب، ثم أعجب.

لو كانت السماء غائمة لنظرت إلى النافذة متأملاً ما قاله في عادات الكسل والخمول. قائلاً لنفسي: سيطيب لهم في {نيو لندن} أن يظل الطقس كذلك. ولمَ لا يظل؟ شهر العرائس، الصوت اللاهث بـ {طلعت راكضة من المرآة، من العطر المكوّم. ورود. ورود. السيد جاسن رتشموند كميسن وعقيلته يعلنان زواج- ورود. لسن عذارى كبعض الزهور. قلتُ : زنيت بإحدى محارمي، يا أبي. ورود. ماكرة وهادئة باسمة. إذا التحقت بهارفرد لسنة واحدة، ولم نذهب لرؤية سباق الزوارق، فينبغي أن يعيدوا إليك بعض الرسوم. فليأخذها جاسن. دعه يقضي سنة في هارفرد.

وقف شريف في الباب وهو يلبس ياقته، ونظاراته تتألق وردية كأنما قد غسلها بوجهه. «أتغيب عن محاضرة هذا الصباح؟}.

- {أتأخرنا كل هذا التأخر؟}.