للذاكرة بئر عميقة ومغوية، تمتاح ماءها من خميرة الصور الهاربة واللقطات الغامضة المضببة، ومن بعض التهويمات والكثير من الخيال الجميل، ومن فن الكولاج غالباً والفوتوشوب أحياناً، هذه اللعبة الذهنية هي إحدى مواهب العقل البشري، التي يجعل منّا فنانين موهوبين في النحت والتشكيل والرسم والتصوير الفوتوغرافي، بل وفي فن تحميض الصور في الغرف الحمراء واستوديوهات العقل الباطن والواعي.
دائماً الذكريات أجمل من الواقع، أو أكثر قتامة وغرائبية! وغالباً ما تستدعي الابتسامات أو الحسرات أو التنهدات ذات المغزى. ذلك أن التذكر هو إعادة تشغيل لأفلام قديمة، ولكن مع شيء من التخييل أو التحسين أو الانتقاء غير الواعي الذي يخضع للكولاج والقصقصة وإعادة التظهير بتقنية عصرية. راودتني هذه الخواطر وأنا أقرأ في كتابين من كتب السيرة الذاتية، (الأجنبية) لعالية ممدوح و(الحياة كما هي) لظبية خميس. في كلا الكتابين بدت الرغبة ملحة للبوح من أجل التخلص من الركامات والأحمال التي تنوء بها الذاكرة، الرغبة في نفض الغبار والتخفف من عبء الكراكيب النفسية والروحية، والتطلع إلى أن تجلس كلتاهما في الشمس خالية من الشوائب والفطريات الجميلة والقبيحة.عن الذكريات ووطأتها تقول ظبية خميس: "إنك تحملها معك أينما يممت وجهك، بداخلك، حولك، في ملامحك، في رائحتك، وأفضل طريقة للتخلص من تلك الذكريات الشاحبة الغامضة المرتبكة الملتبسة، هو أن تحاول أن تتذكرها تماماً كما حدثت، أن تشعل الضوء في تلك الغرفة المعتمة من الروح والجسد، أن تتذكر بقسوة وصرامة تلك التفاصيل التي تحاول دائماً أن تفرّ منها، تفر منها إلى درجة تجعل حياتك المعيشة تفرّ منك هي أيضاً". يُقال ان كتابة الشعر أوالسيرة الذاتية هي فن الفضيحة، لذلك يحتاج كاتبهما إلى شجاعة خاصة ليبدو صادقاً وأليفاً وقريباً من قلب قارئه، في مواضع الصدق هذه سرعان ما يُكتشف المدعى والمتباهي والممثل، ذلك أن الحميمية والضعف الإنساني هما شارتا العمل الأنصع والأجمل. في (الأجنبية) نرى الكاتبة في خوفها الإنساني المزمن، الخوف من التشرذم وفقدان الهوية الإنسانية على بوابات المدن الرافضة، حالها حال الهاربين من أوطان أنهكها الطغيان والخراب، فالتجأوا إلى باريس ولندن وغيرهما باحثين عما يرممون به ذواتهم. ثم هناك ذلك الارتباك بين لغتين، اللغة الأم التي باتت الحصن الأخير والثمين لمن يحترف الكتابة، ولغة المنفى الأجنبية المتلعثمة المحرضة على الشعور بالحرج والضعة. ذات الخوف يعود ليطل برأسه حين الوقوف أمام سفارة وطن لم يبق من مظاهر أمنه غير ذكريات عتيقة وبيوت خربة وأهل ينامون تحت شواهد القبور. كانت الذكريات أشبه بانتحاب مكتوم في عمر لم يعد فيه متسع للبهجة غير بهجة الكتابة. بين فصول (الأجنبية) هناك أيضاً استدراك ودوران حول شخصيات عالية ممدوح الروائية في (حبات النفتالين) و(المحبوبات) و(الغلامة)، واعترافات مموهة حول كون الشخصيات منحوتة من اللحم الحي لشخوص الجدة والعمة والأخ والأب الحقيقيين. تلك ظاهرة غالباً ما توجد عند معظم الروائيين، حين يدسون في رواياتهم نتف من سير حيواتهم، وهي نزعة تبدو غالبة على النفس حين تكون الذاكرة هي البئر الأكثر غوراً وحضوراً. في حالة ظبية خميس يطلّ هاجس الحرية كثيمة أصيلة في سيرتها (الحياة كما هي). إنها حرية داخلية ملحّة، مفعمة بالنزق والمغامرة والخروج عن النسق. هذا إذا اعتبرنا أن النسق هو البيئة الغافية على سكونية التقاليد، حيث الأشياء كما هي والنساء كما هن يلتففن بعباءة الاستسلام والطاعة. في متن الكتاب الكثير من التفاصيل الحميمة والذكريات الرطبة، حول طفولة بعيدة وإرث عائلي وتشابك علاقات وسفر دائم ومحطات متقاطعة. بيد أن (ظبية) أو (مهرة) - كما سمتها – حين اختارت خيار الحرية والانطلاق وراء مباهجها، كان عليها أن تسدد بعض الأثمان هنا وهناك، تماماً كما يسدد أي إنسان ثمن اختياراته في هذه الحياة الناقصة والملتبسة. تقول قرابة نهاية تلك السيرة المفعمة بالتذكر:"إن مهرة بنت عبيد اليوم وحيدة أكثر من أي يوم مضى... وحيدة في ملف ذكريات تلك الوحدة... هناك وحدة موحشة... وأخرى متوحّشة، فما الذي يحدث عندما تجتمع الوحدتان... نفق الفراغ الكوني الهائل... التفكير في نوع الوجود والالتفات إلى الخلق لرؤية ذلك الذي قد خلّفته وراءك، ولم يكن وراءك تماماً، بدقة".
توابل
بئر الذاكرة
10-12-2013