الشعب هو مصدر السلطات جميعاً؛ لذا فالثقة الشعبية بالسلطات العامة قضية في غاية الأهمية، فعندما يفقد الناس ثقتهم بأي سلطة من السلطات العامة يصبح وجودها والعدم سواء، فوجود سلطات شكلية لا يثق بها الناس ويعتبرونها منحازة إلى طرف من الأطراف السياسية يشكل ضرراً بالغاً على الدولة لأنه يستنزف مواردها دون أي فائدة، ويهدم أركانها فيقودها إلى الفوضى أو التمرد، حيث يخبرنا التاريخ أن جميع الأنظمة التي تعرضت لهزات سياسية عنيفة توجد فيها أجهزة صورية لا تُمثل الناس ولا يثقون بها.

Ad

وغنيٌّ عن البيان أن قوة السلطات العامة وعدم تداخلها وحياديتها في إدارة الشؤون العامة، أي عدم استخدامها من قِبل الحزب الحاكم أو المجموعة الحاكمة، هي ما يميز الدولة القوية عن الدولة الفاشلة، والسلطات العامة ليس لها قُدسيّة، فجميعها معرضة للفساد لا سيما الفساد السياسي الذي يُدمر أجهزة الدولة ومؤسساتها عندما تستخدمها المجموعة المسيطرة لمصلحتها وفي غير أغراضها؛ لذا توجد آليات وأنظمة ومواد دستورية تضع حدوداً فاصلة لكل سلطة من السلطات العامة ولطريقة عملها حتى يمكن الحد من فسادها وعدم تعديها على السلطات الأخرى، فكما قال اللورد آكتون "السلطة مفسدة والسلطة المطلقة مفسدة مطلقة". إن الهروب إلى الأمام وإنكار وجود المشاكل العامة يخلقان مشاكل أخرى جديدة قد تكون أكثر صعوبة وتعقيداً وضرراً على الدولة والمجتمع من المشاكل الحالية، ومن المؤكد أن عدم الالتزام بالدستور وتطويره باتجاه النظام البرلماني الكامل قد ترتب عليه تداخل كبير في السلطات العامة، حيث طغت السلطة التنفيذية على السلطتين الأخريين، فضلاً عن أن طريقة تعامل سلطة الحكم مع قضايا الفساد الكبيرة كان لها انعكاس سلبي على ثقة الناس بمؤسسات الدولة، فالعدالة إحساس كما يقال.

 ومن ضمن هذه القضايا كارثة الغزو والاحتلال، واختلاسات الناقلات والاستثمارات الخارجية وشبهات الفساد الصارخة التي طالت كبار المسؤولين في السلطتين التنفيذية والتشريعية (التحويلات المليوينة والرشا السياسية)، وفساد الأغذية واللحوم وتهريب الديزل، وما تشير إليه عادة تقارير ديوان المحاسبة من قضايا فساد في الأجهزة الحكومية وفي القطاع الخاص أيضاً، علاوة على أن تداعيات الأزمة السياسية المحتدمة واتهامات الفساد السياسي الأخيرة التي تطول أطرافاً محسوبة مباشرة على السُلطة والمواقف المعلنة مسبقاً من قِبل السطات الثلاث، قد أثرت بشكل كبير في ثقة الناس بالسلطات العامة.

 ومن المؤسف أن الصراع طال هذه المرة أطرافاً مؤثرة في السلطة القضائية التي يجب أن تبقى دائما بعيدة عن ميدان الصراع السياسي، وهو الأمر الذي يجب تداركه بسرعة وبطرق غير تقليدية مثلما أشرنا في مقال سابق، ثم معالجة الأسباب الجوهرية للأزمة السياسية البنيوية؛ لأن استمرار عدم الثقة بمؤسسات الدولة وسلطاتها العامة يؤدي إلى عدم الاستقرار الاجتماعي والسياسي.