«العولمة» قد تتوقف... لكن لن تتخذ مساراً عكسياً
في ضوء المستوى العالي الذي تحقق من التكامل الاقتصادي على المستوى الدولي، وحقيقة أن التقنية تدفع نحو مزيد من التكامل المستمر للأسواق، فلا أرى بأي حال من الأحوال أن الحكومات قد اتخذت مساراً عكسياً لحرف مسار العولمة أو تغيير اتجاهاتها.
قدم سايمون ايفينت إلى المجتمع الدولي والنظام التجاري الدولي خدمة كبيرة عبر جذب الانتباه وتسليط الضوء على الطرق التي لا تعد ولا تحصى التي تعثرت الحكومات من خلالها في النظام التجاري الدولي المفتوح خلال السنوات الأخيرة.ويمثل ناقوس الخطر التجاري العالمي الذي أطلقه مصدراً مهماً وثميناً لمحاولة إبقاء الحكومات صادقة ونزيهة في ما يتعلق بوسائلها التي تتبعها في خرق قوانين التجارة وتجاوزها أو في جهودها الرامية إلى حماية مصالح داخلية. ويسعدني أنه امتلك زمام المبادرة في خوض المعركة وعمد إلى إصدار تحذيرات بشأن تآكل السياسة الجارية التي نشهدها على الساحة العالمية.
وفي الوقت ذاته، أنا أكثر تفاؤلاً منه إزاء احتمالات السنوات المقبلة في أن تبقى الأسواق مفتوحة ومتحررة بعيدة عن القيود المعتادة. لهذا السبب أنا لا أظن بأن العولمة تعيش "حالة إضرابات" أو تتعرض لمتاعب. وكما سبق أن أشرت فإن تفاؤلي يستند إلى عنصرين أولهما المستوى العالي من التكامل الاقتصادي الدولي الذي تحقق، والآخر، حقيقة أن التقنية تدفع نحو مزيد من التكامل المستمر في الأسواق، حتى في ظل غياب إجراءات سياسية داعمة تنطلق في ذلك الاتجاه.«متلازمة الصرخة»كما أني لا أرى أن الحكومات تتجه، بأي صورة من الصورة، إلى حرف العولمة التي يشهدها العالم عن مسارها الذي تحقق في السنوات الأخيرة.والأبعد من ذلك، أجد أن هناك ثلاثة عوامل توفر لي بعض العزاء والسلوى حيال ما يحدث:العزاء الأول، أن الاقتصاديين خلال العقود القليلة الماضية عمدوا إلى المبالغة والتهويل بشأن التحرك نحو الحمائية، وفي الوقت نفسه هونوا من شأن التوجهات التحررية وانفتاح الأسواق على مستوى العالم.في عام 1983 كتب روبرت باستور، وهو عالم سياسة محنك، مقالة رائعة حول السياسة التجارية الأميركية تحت عنوان "متلازمة الصرخة والتنهد". وكانت فكرته تقول إن الصرخات المنادية بتطبيق المزيد والمزيد من التدابير الحمائية كانت تنطلق بصورة متكررة بغية إفساح المجال فقط لتنفس الصعداء عندما تظل الأسواق مفتوحة.في عام سنة 1961، حذر جاكوب فاينر، الاقتصادي البارز آنذاك، من أن "المد يجري في اتجاه الحمائية" حتى مع إقرار الكونغرس الأميركي في السنة التالية لقانون "توسيع التجارة" الصادر عام 1962، والذي وضع حجر الأساس لمحادثات التجارة العالمية الجديدة.وفي سنة 1971 حذر سي. فريد بيرغستن من أن "السياسة التجارية للولايات المتحدة كانت تبتعد بصورة ثابتة عن المقاربة التجارية الليبرالية التي اتسمت بها منذ سنة 1934".وفي عام 1978 كتب جون جاكسون، وهو محام تجاري لامع، مقالة محبطة بعنوان "المؤسسات المنهارة للتجارة الليبرالية"، مجادلاً بأن "الاتفاقية العامة حول التعرفة الجمركية والتجارة" (الجات) كانت في حالة يرثى لها، وأن قوانينها يتم تجاهلها بشكل روتيني، إضافة إلى ارتداد المشاركين فيها عن التزاماتها السابقة حول انفتاح الأسواق وتحرير التجارة. كما كتب مايك آهو وتوماس بايارد في عام 1982 مقالة بارزة بعنوان "حقبة الثمانينيات من القرن الماضي: فجر النظام التجاري المفتوح؟".كان لأقوال هؤلاء الاقتصاديين قيمة في ذلك الوقت، ولكن لا يمكن النظر إليها على اعتبار أنهم متنبئون لأحداث وقعت لاحقاً. كما أنني لن أضاهي سياسات التجارة العالمية لعام 2013 أو أقايضها بتلك السياسات التي طبقت في السنوات الماضية والتي تعود إلى أعوام 1993 أو 1973 أو 1953.شركات مخربةالعزاء الثاني، يذكرني سماعي لكل الجهود الحكومية الرامية إلى إبعاد البضائع الأجنبية عن الأسواق المحلية بلعبة استهداف أعداد من حيوانات الخلد التي تظهر وتختفي بسرعة في أماكن مختلفة – ويصعب مواكبتها. فالواردات لديها طرقها الخاصة للتسلل إلى الاقتصاد، على الرغم من الجهود الرسمية لإبعادها. وهذا يذكرني بمقالة الراحل روبرت بالدوين الرائعة بعنوان "عدم الفعالية في السياسة التجارية" التي كشف فيها كيفية تخريب الشركات والأسواق لجهود الحكومة لمنع الواردات. وعلى سبيل المثال، عندما أقدمت أميركا على فرض رسوم إغراق على الشرائح الإلكترونية أشباه الموصلات القادمة من اليابان تحول مصدر الإمداد إلى تايوان. وعندما تعرضت تايوان إلى رسوم إغراق تحول المصدر إلى كوريا الجنوبية. المنتجون المحليون لم يحصلوا على راحة من المنافسة الأجنبية.ودعونا نستدعي مثالاً من التاريخ، في سبعينيات القرن التاسع عشر عندما بدأت الخطوط الحديدية بالتوغل في أعماق الغرب الأوسط الأميركي وروسيا هبطت أسعار الحبوب بصورة كبيرة. وقد أدى ذلك إلى أن الحكومات فرضت تعرفة جمركية على استيراد الحبوب رداً على ذلك غير أن الرسوم فشلت في عكس الهبوط السريع في تكلفة النقل التي كانت تقرب بين الأسواق. والفكرة هنا أن الإجراءات الحمائية لم تكن على الدوام مفيدة أو يمكن فرضها دون تكلفة أو تضحيات، بل إنها في أغلب الأحيان أقل فعالية مما كنّا نظن في بعض الأوقات.الحواجز التجاريةوالثالث، أن سياسات مجموعة المصالح التجارية تغيرت بصورة كبيرة في السنوات الأخيرة، وأصبح المزيد من الشركات متعددة الجنسية بقدر أكبر من أي وقت مضى. ولم تعد تلك الشركات تحصل على فائدة من القيود التجارية وبالتالي لم تعد تضغط من أجلها. كما أن زيادة سلسلة الإمداد العالمية جعلت من الأصعب على الحكومات تبرير عزل بلادها عن هذه الأسواق العالمية. علاوة على ذلك فإن العديد من واردات هذه الأيام ليس بضائع نهائية بل وسيطة، كما أن مستهلكي تلك البضائع ليسوا من الأسر بل من الشركات التي ترغب بقدر أكبر في الاعتراض بصوت عالٍ على الحواجز التجارية التي تضر بقدرتها على بلوغ أفضل مصادر الإمداد والتموين.هناك بعض المؤشرات المثيرة للقلق بشأن توجهات السياسة التجارية في العديد من الدول، مثل روسيا والأرجنتين والبرازيل. ويتعين الثناء على البروفيسور إيفينت لأنه لفت انتباهنا إليها. ولكن على مستوى أوسع كثيراً لا تزال هناك قوى عميقة وقوية سوف تبقي العولمة سليمة وبعيدة عن الأذى.Douglas Irwin* دوغلاس إيروين، بروفيسور الشؤون الاقتصادية في كلية دارتموث.