كانت سماح أول من لبست {الميني جوب} في الحي فأصبحت خلال ساعات حديث الصباح والمساء، معيدة إحياء تلك الموضة في تسعينيات القرن الماضي، والتي عرفتها القاهرة منذ عقود، عندما كانت ظاهرة {الميني چوب} والسيقان العارية قد بدأت في مصر داخل الأحياء الراقية، وكانت فتيات الطبقة المخملية لا يلبسن تلك التنورة القصيرة إلا في الأندية والسهرات والحفلات المغلقة، من دون أن يشعرن بحرج أو خجل أو خوف من التحرشات الثقيلة، خصوصاً أنهن في حماية سياراتهن الفارهة، التي تتحول إلى قلاع متحركة تحمي صاحبتها من الاختلاط مع العامة في الشوارع المزدحمة.

Ad

سماح يبدو أنها رغبت في إحياء ذكرى {الميني جوب} على طريقتها الخاصة، بعد زمن من انتهاء هذه الموضة المثيرة، مشت بالتنورة القصيرة، طوال الطريق من بيتها في شارع الحكيم، وحتى مكتب المحامي الذي تعمل فيه سكرتيرة على أطراف الحي، تحديداً في المنطقة الواقعة بين حي {الشرابية} حيث تسكن، وحي {الظاهر} في قلب القاهرة، والذي كان في ذيل قائمة الأحياء الراقية في العاصمة المصرية، ولم يكن هذا الترتيب يضايق سكان الظاهر، ما داموا داخل تصنيف الأحياء الراقية، حتى وإن احتلوا المركز الأخير.

أول يوم ظهرت فيه سماح بـ{الميني جوب} خطفت العيون، وأخذت العقول، وأثارت جدلاً كبيراً بين عقلاء الحي وعجائزه من ناحية، والشباب الذين اعتصموا في الشوارع في مواعيد خروج وعودة سماح، حوار كبار الحي والمسنين كان يحكمه العقل وينتهي إلى ضرورة لفت نظر الست {بدور} أم سماح، إلى ملابس ابنتها اللافتة. أما حوار الشباب فكانت تحكمه الغريزة، فلم يهتموا إلا بدراسة ومناقشة مواطن الفتنة الصاعقة، التي كانت تشع من سماح.

 خاف الكبار على أبنائهم، وتفنن الصغار في الهروب من مراقبة أبائهم، نساء الحي وصفن سلوك سماح بقلة الأخلاق، وبعضهن عاب عليها سوء التربية. ذهب وفد منهن لمقابلة أم سماح ومعاتبتها، وتوجيه النصح إليها، كان دافعهن الغيرة والخوف على أزواجهن من الفتنة، دافعت أم سماح عن ابنتها الوحيدة باستماتة قائلة: {يا ناس حرام... هو أنا عاش لي عيل غير سماح. البنت وحدانية ويتيمة... سيبوها في حالها وبلاش افتراء}.

انصرفت النساء واحدة تلو الأخرى، كن يعرفن أن أم سماح إذا فقدت أعصابها تخرج منها الشتائم وتعلو لسانها البذاءات، فهي أولاً وأخيراً بائعة {الطعمية} الشهيرة على إحدى نواصي شارع الحكيم، وتجاربها في الغضب مريرة. فشل الجميع في إقناع سماح بوقف مهزلة الـ{ميني جوب}، وكأنها هي التي اخترعته. كثيرون من الشباب كانوا يمشون خلف سماح بما يسمح بالرؤية المطلوبة، ولم تكن تعيرهم اهتماماً، تقديراً منها لأنهم تلاميذ في سن المراهقة. لكنها لقنت الجيل الأكبر سناً من الشباب درساً بعد الآخر، حينما كانت تلتفت فجأة ثم تسب البصاصين بعبارات جارحة. ولكن نجمة الـ{ميني جوب} كما كانوا يطلقون عليها بعدما تخلصت من متاعب الطريق، لم تكن تعرف ما يحدث داخل صالون {المحبة}.

بنت إبليس

لم تكن سماح تعرف أن لها أسماء رمزية كثيرة في حي {الظاهر}، فسمعتها على كل لسان، والجميع يتفنن في ذكرها في أي تجمع لأبناء الحي وبناته. الشباب أطلقوا عليها {مارلين المصرية} نسبة إلى نجمة الإغراء الأميركية مارلين مونرو، وشيخ المسجد كان يلمح إليها بـ{بنت إبليس} في خطب الجمعة، عند حديثه عن ضياع الأخلاق وقلة المروءة واختفاء الحياء. كان الجميع يعلم من يقصد شيخ الجامع، الذي كان رغم عدم تصريحه بالاسم، يصف سماح بشكل جيد، بينما كان لقب {سماح} الرمزي بين ربات البيوت {اللي ماتتسماش}. أما صاحب صالون {المحبة}، عم فاروق الحلاق، فكان يلوك سيرتها باسم {هند}، ربما للشبه الكبير في ملامح الوجه وتضاريس الجسد بين سماح وهند رستم.

كان عم فاروق إحدى الشخصيات البارزة في الحي، فهو صاحب صالون الحلاقة الذي تتردد عليه عشرات الزبائن يومياً، والويل كل الويل لمن يترك صالونه ويجرب الحلاقة في الصالون الجديد الذي ضم إليه صاحبه أحدث وسائل قص الشعر وتقليم الأظفار، مع أرق أنواع الصابون والمعجون والعطور وأطقم الفوط الجديدة. إلا أن صاحب الصالون الجديد نفسه لم يسلم من حملات التشهير التي يطلقها عم فاروق ببراعة ضد خصومه، ولأن العم كان يعتبر نفسه من رجال السياسية، وصديقاً لرجال الأمن ونواب البرلمان، حرص معظم سكان الحي على صداقته، وتجنب الخلاف معه.

إلا أن السبب الأهم كان {لسان} عم فاروق الذي لا يرحم، تنطلق من عنده الإشاعات وتتلطخ في صالونه سمعة النساء، يبوح بالأسرار ويفبرك الحكايات ويخترع الأكاذيب، ورغم عشقه للسياسة وأحاديثها، فإنه وبذكائه المعجون بالخبث لاحظ أن حواراته الممتدة مع زبائن المحل لم تعد لها جاذبية، خصوصاً بعدما شعر الناس بالملل من حكاياته، وحينما تأكد الرجل أن الزبائن ينامون تحت يديه مع حكايات السياسة، وجد ضالته في نجمة الـ{ميني جوب}، التي يعرف سيرتها كل بيوت الحي، ورسم لها الرجال والشباب صوراً خاصة في خيال كل منهم.

 بدأ عم فاروق يلمح بعلاقة خاصة بين سماح والمحامي صاحب المكتب الذي تعمل فيه، كان يطرح أسئلته مع الزبائن ويتظاهر بحسن نواياه ورغبته في معرفة الإجابات عنها بلؤم: لماذا يوصلها المحامي كل ليلة بنفسه حتى باب بيتها؟ وماذا تفعل سماح في مكتبه بعد العاشرة مساءً كل ليلة؟ هل يليق ببنت الحي أن تصبح في خلوة مع هذا المحامي الغريب عن الحي بعد انصراف الموكلين من المكتب؟ وما هو شكل الخلوة حينما يخلو المكتب إلا من صاحبه المحامي وسكرتيرته التي تنكشف ساقاها تحت الـ{ميني چوب}؟

ولم يكن زبائن عم فاروق يخوضون معه في سمعة جارتهم الشابة الحسناء، لكن ما يرويه عم فاروق كان يثير فضولهم ويسيل لعابهم، خصوصاً قصة شرطة الآداب التي تراقب مكتب المحامي والخطر الداهم الذي يهدد جارته {سماح}، فيما لو ضُبطت متلبسة بجريمة مخلة بالشرف في مكتب المحامي، فتجلب لهم العار جميعاً. قصة اخترعها عم فاروق وصدقها كعادته مع الحكايات والإشاعات التي يطلقها، وبعد أيام يصدقها.

واستغل عم فاروق صداقته لضباط قسم الشرطة ومجاملته لهم بعدم تقاضي أجر الحلاقة منهم، بدءاً من المأمور ورئيس المباحث، ومروراً بضابط النوبتجية وانتهاء بالمخبرين، فكان ينسب إشاعاته إلى أجهزة الأمن ومصادره فيها، وكثيراً ما يصدقه أهل الحي، فهم يشاهدونه الاثنين، يوم إجازته، داخل قسم الشرطة يتنقل بين رؤوس الضباط والمخبرين من العاشرة صباحاً وحتى غروب الشمس. أما بقية أيام الأسبوع فيتابع إشاعاته عن تحريات شرطة الآداب عن {سماح}، والصور التي التقطت لها وهي عارية، والتسجيلات الفاضحة لما يجري في مكتب المحاماة. فإذا تجرأ أحد الزبائن وسأله لماذا تنتظر شرطة الآداب كل هذا الوقت من دون أن يقبض على سماح يأتي رده سريعاً: {الموضوع مش سهل، دي شبكة كبيرة والمباحث لازم تتوصل لكل أعضائها... أصل كمان طلعت واحدة من الوسط الفني في الشبكة، ممثلة معروفة... والموضوع خطير}.

إشاعة خطيرة

تطورت الإشاعة بسرعة مع إضافة عم فاروق مزيد من قصص وحكايات تلقفها البسطاء من أهل الحي، الذين كان كل منهم يتخيل ممثلة معينة ويحكي عنها لأهل بيته على أنها الممثلة التي تطلق بنات الشبكة ومن بينهن {سماح}، ولم يكن غريباً أن يفرض الحي كله مقاطعة شاملة على سماح والست بدور، التي أوشكت على الإفلاس وبارت تجارتها ووصلت المقاطعة إلى حد تحريم {طعمية} أم سماح. إلا أن المقاطعة نفسها لم تفلح، مما أثار عم فاروق الذي لاحظ أن الأحوال المادية لسماح وأمها لم تتأثر، حتى بعدما سحبت بدور العربة والطاسة وكل أدوات المهنة التي صارت من الذكريات، لينصرف زبائنها إلى مطعم {الشامي} المتخصص في بيع الطعمية والفول.

هنا بدأ عم فاروق يروج لحكاية جديدة تؤكد أن شبكة الآداب هي التي تنفق الآن على سماح وأمها، والتقط شيخ المسجد الخيط والتهبت خطبه وهو يحذر الأهالي من المال الحرام، وكل جسد نبت من حرام فالنار أولى به. بدأت المشاعر السلبية تتجمع في الحي ضد سماح وأمها، وبدأ الجميع التفكير في كيفية التخلص منهما، سواء بالإبلاغ عن سماح ونشاطها المريب أو بالاتفاق على طردها وأمها خارج الحي.

وفي أثناء تفكير أهالي الحي عن الوسيلة المثلى للتخلص من سماح، احتفل عم فاروق بهاتف منزله، كان أول بيت يرن فيه جرس الهاتف في الحي كله، وبقدر سعادته به صبّ غضبه ولعنته عليه. كانت أول مكالمة من شخص جهوري الصوت قال إنه من جهاز أمني رفيع المستوى، حذره من تشويه سمعة {سماح} وإلا نزل ضيفاً على المعتقل، وأغلق الخط بعدها، ليترك فاروق يتصبب عرقاً بينما جسده يرتعد خوفاً، ظل يردد: {حاضر يا أفندم، حاضر يا أفندم}، رغم انتهاء المكالمة.

نفذ عم فاروق التعليمات حرفياً، وأصيب زبائنه بالذهول كلما فتح أحدهم سيرة سماح أمامه، فإذا به يراوغ ويهرب ويتهرب ويغير الموضوع. لكن يبدو أن المصائب لا تأتي فرادى، فما كاد الرجل يفيق من انكساره أمام فتاة {الميني جوب}، حتى فوجئ بما هو أخطر وأدهى.

نار... ودموع

صباح يوم الاثنين ذهب فاروق إلى قسم الشرطة في موعده المعتاد، وخرجت زوجته إلى السوق تاركة ابنها جمال نائماً في سريره، ولم تمر بضع دقائق ليتنبّه أهل الحي إلى حريق ضخم يندلع من شقة عم فاروق، ألسنة اللهب تتصاعد بسرعة البرق، وصراخ نساء الحي يرتفع، ويصل الخبر إلى العم فينتفض مهرولاً إلى بيته يسابق الريح، وقف أمام بيته يلطم كالنساء، عجز أن يقتحم النيران، وعجزت مثله الست {بدور}، التي مزق صياحها القلوب، وهي تخبر الجيران بأن سماح انطلقت كالسهم إلى بيت عم فاروق ونسيت أنها بقميص نومها، وانقسم الجيران إلى فريقين أحدهما يبعد عم فاروق عن النيران، ويمنعه من أن يلقي بنفسه داخل البيت لإنقاذ ابنه الوحيد، وفريق آخر يمسك بالست {بدور}، التي ظنت ومعها جميع أهل الحي أن سماح احترقت أيضاً داخل المنزل المنكوب.

 لكن سماح تظهر فجأة وهي تحمل جمال وتركض به إلى خارج المنزل، كان يبدو عليها الإعياء البالغ وهي تقاوم الاختناق، أجلسوها على مقعد قريب وانطلقت زغاريد النساء فرحة بنجاة جمال وسماح، بينما كان بعض الرجال يهنئون عم فاروق، وبعضهم الآخر يتصل بالإسعاف لإنقاذ سماح التي غابت عن الوعي، وعندما وصلت المطافئ انشغل الناس بمساعدة رجال الإطفاء، خشية امتداد الحريق إلى بقية بيوت الحي.

وفجأة يشق عم فاروق الزحام يسأل عن سماح ليشكرها، قالوا له إنها تجلس على المقعد في انتظار الإسعاف، وجد المقعد لكنه لم يجد سماح، سأل عنها أمها فأجابته وهي تبكي أن سماح لا بد من أن تكون وسط الزحام، فهي لم ترها منذ أطمأنت عليها وهي جالسة على المقعد يداويها الجيران، لحظات وينفض الزحام وتصل سيارة الإسعاف، لكن سماح اختفت، كأن الأرض انشقت وابتلعتها، لا هي في بيتها، ولا في الشارع، ولا بين النيران التي خمدت، ولا في الحي كله.

 تحولت سماح إلى لغز كبير، المباحث تدخلت من دون جدوى، المحامي الذي كانت تعمل لديه، وجميع أهل الحي انتشروا في كل مكان، الكل يبحث عنها يتقدمهم عم فاروق، والست بدور تجوب الشوارع والحواري تنادي بأعلى صوتها: {يا سماح... ردي على أمك... أنتِ فين يا ضنايا؟!}.

تمضي الأيام... ولا جديد.

انكسر عم فاروق وشعر أنه مدين لسماح أمام نفسه وجيرانه، لم يعد يسأل عن زبائنه الذين انفرط عقدهم واتجهوا جميعاً إلى الصالون الجديد، هرباً من كآبة عم فاروق ودفاعه المستميت عن نفسه، من ذنب سماح وافتراءاته عليها، وكي يبرئ ضميره ذهب إلى أكبر الصحف ونشر إعلاناً على مساحة كبيرة بعنوان: {مكافأة مجزية لمن يعثر على سماح}، وسدد نفقة الإعلان من جيبه الخاص، وداخل الإعلان الصورة الوحيدة التي عثروا عليها لسماح في بيت والدتها، وكانت  للأسف بـ{الميني جوب}.

 لكن حتى هذا الإعلان لم يأت بجديد ليتحول اختفاء سماح إلى لغز الألغاز، وبقيت الفتاة الجميلة أسطورة يضيف إليها أهل الحي الكثير من القصص والروايات، جاء أحدهم يوماً ليقسم أنه شاهد سماح في سيارة مرسيدس على إشارة مرور في ميدان {عابدين}، لكنه ما إن اقترب منها حتى أسرعت بها السيارة لتختفي عن النظر، وأرسل أحد أبناء الحي الذي هاجر إلى إحدى الدول الأوروبية خطاباً إلى أهله، يؤكد فيه أنه شاهد سماح في القطار الذي يربط بين لندن وباريس، ولأنه كان على رصيف المحطة وكانت هي تجلس إلى جوار النافذة، لم يستطع اللحاق بها بعدما تحرك القطار.

 كانت الست بدور التي فقدت بصرها تسمع كل هذه الأنباء، وتعيش على أمل أن تصدُق أحدها، خصوصاً أن سماح تزورها في المنام بين حين وآخر لتطلب منها أن تنتظرها على محطة المترو صباح يوم الخميس، وفعلاً كانت الست بدور تقف منذ الصباح الباكر كل خميس على رصيف محطة المترو، وما إن يصل المترو حتى تجري بين عرباته ونوافذه وهي تنادي بأعلى صوتها سماح، لكن بلا مجيب فتنتظر الخميس الذي يليه، وفي إحدى المرات سقطت الست بدور تحت العجلات وتحولت إلى أشلاء في لحظات... وما زالت سماح وسر اختفائها حتى الآن بطلة حكايات الصباح والمساء بين أبناء الحي، وظلت عالقة في الأذهان... امرأة بلا عنوان.