لا تتوقف الحياة عن تحدي البشر واستفزازهم وإغرائهم على صعيد إيمانهم ومبادئهم وقيمهم وقناعاتهم طوال الوقت، وكأن الإنسان في موقع اختبار مستمر من كل اتجاه، والحقيقة أنه كذلك فعلا.

Ad

المعتقدات الدينية على سبيل المثال على محك اختبار مستمر، ولا يسلم من الوقوع في دائرة التشكك وتقليب الأفكار الكبرى إلا شخص مستقر النفس جدا على هذا الصعيد حيث سبق له أن تجاوز العتبة بطريقة ما، أو شخص وجد نفسه أضعف من التفكير في مثل هذا الأمر فقرر ألا يواجهه مطلقا، أو شخص لا يهتم بالمسألة الدينية من الأساس، وحسبه أن يمارس طقوسها ممارسة شكلية خالية من المحتوى التفكري، هذا إن كان يفعل ذلك أصلا.

المبادئ المدنية والقيم الأخلاقية في الكفة الأخرى تمر بشيء قريب من هذا، فهي في موقع اختبار مستمر أيضا، وأعني هنا تلك المنظومة المحيطة بالإنسان انطلاقا من كونه عضواً في مجتمع مدني تحدد ملامحه أخلاقيات وقواعد وقوانين ونظم متنوعة.

التزام الشخص بقواعد وأنظمة المرور مثلا، وهو مثال بسيط جدا، يتعرض للاختبار عندما يجد نفسه واقعاً في الازدحام المروري أو بعيداً عن عيون رجال الأمن. فيواجهه السؤال: هل يظل ملتزما بالقواعد المرورية "المدنية الحضارية"، أم يضرب بها عرض الحائط للتغلب على الازدحام الخانق، خصوصا عندما يرى غيره يفعل ذلك كأولئك الذين يمرون في وقت الزحمة عبر حارات الأمان في الطرق السريعة أو الذين يتجاوزون مسار السيارات المنتظرة عند المنعطفات، وغيرهم، وينفذون جميعا بجلودهم؟

كذلك التزام الشخص بقوانين العمل، من حيث أداء الواجبات واتباع نظم الحضور والانصراف والمواظبة والغياب، تتعرض للاختبار طوال الوقت عندما يرى غيره يتجاوزها وتمر أموره بردا وسلاما، فيواجه السؤال الآخر: هل يلتزم بالقوانين واللوائح والنظم، أم ينضم إلى المتجاوزين "الشُطّار" الذين أمنوا العقوبة؟

وكذلك مراعاة الشخص لما يسمى بحرمة المال العام تتعرض للاختبار بشكل مستمر بأقدار متفاوتة ومن مواقع متعددة، فتواجهه الأسئلة طوال الوقت. هل يأخذ ذلك البدل المالي وهو يعلم أنه لا يستحقه؟ هل يأخذ تلك المكافأة أو المنحة أو الأعطية بلا وجه حق؟ هل وهل؟! وهو يرى غيره قد أخذ وأخذ حتى صار من الأثرياء ربما!

هذه الضغوط والإغراءات، وغيرها كثير، تظل تضرب في جدار "مدنية" الإنسان من حيث التزامه بالمبادئ الأخلاقية والقيم والقوانين طوال الوقت، وبمقدار سماكة وصلابة هذا الجدار المحيط بالإنسان يكون صموده وتكون ممانعته، فإن كان سميكاً صلباً صمد الإنسان وتمسك بأخلاقيات المدنية وقيمها ونظمها، وما همه المخالفون، وإن كان رهيفا هشا أشبه بقشرة البيضة تكسر وتكسرت معه مدنية الإنسان.

وسيحاول الإنسان، بطبيعة الحال، عند سقوطه أمام هذه الإغراءات والضغوط أن يوجد لها، أمام نفسه في المقام الأول ومن ثم أمام غيره، تبريرات وتفسيرات دينية وأخلاقية ومنطقية، وذلك ليدفع عن نفسه شبهة الوقوع في الخلل ومرارة اقتراف الخطأ ولطخات ممارسة الجرم، ابتداء من تلك العبارة الشهيرة: "ما فيها شيء"، وانتهاء بتلك العبارة الأشهر: "الكل يفعلون ذلك"، مرورا بينهما بعشرات عبارات التبرير والذرائع والحجج.

وتتمثل الملاحظة المؤلمة بأنه بمقدار ما تترهل الدولة، أي دولة، ويزداد فيها الفساد تقل هيبة القانون في نواظر الجميع حتى لا يكاد الأمر يستثني أحدا، فيزداد الإنسان اقتراباً من هدم الأخلاقيات وكسر القوانين وتجاوز النظم واللوائح في مختلف المجالات، وكأنه يواجه "غابة" هذا الواقع الفاسد بإخراج رجل الغاب الذي في داخله.

كل واحد منا يتعرض لمثل هذا يوميا، وكل واحد منا هو أدرى بنفسه، ولذلك فلنسأل أنفسنا: كم مرة تنازلت عن قواعد المدينة والحضارة؟ وكم مرة أخرجت رجل الغاب الذي في داخلك مؤخرا؟ وما مبرراتك لذلك؟!