الطابق التاسع في إحدى العمارات الجديدة في حي الدقي، أحد أرقى أحياء العاصمة المصرية، ثلاث شقق على مساحة مئتي متر لكل شقة. فجأة، تتجه الأنظار والأسماع إلى هذا الطابق ويختلط السكان برجال الشرطة وتثور علامات الاستفهام، وفوق الأرض جثة يبدو أن صاحبها فارق الحياة قبل لحظات. إحدى السيدات وهي صاحبة الشقة رقم 28 في حالة ثورة عارمة، تتطاير من لسانها اتهامات فظيعة وعبارات تستفز جارتيها هبة ومي فتطلبان من ضابط المباحث أن يثبت الإهانات التي توجهها جارتهما مايسة إليهما، وكل ما يصدر عنها من كلمات طائشة تمس سمعتهما. لكن الضابط يطلب أن يلتزم الجميع الهدوء، خصوصاً مايسة صاحبة الشقة رقم 28.

Ad

اللحظة التي قلبت الأوضاع في الطابق التاسع كانت حينما فتحت «هبة» شقتها في الواحدة والنصف ظهراً، بعدما سمعت حركة غير عادية خارج باب الشقة ففوجئت بجثة «عامر» زوج جارتها مايسة بين الشقتين 29 و30، فلم تشعر بنفسها إلا وهي تصرخ في هيستيريا مما دفع الجيران إلى التجمع لمعرفة ما يحدث. تقول السيدة هبة في التحقيقات إن جارتها السيدة مي صاحبة الشقة رقم 29، فتحت شقتها أيضاً وشاركتها الصراخ والفزع بعد التأكد من أن السيد عامر فارق الحياة، ثم أبلغ الجيران الشرطة، واتصل آخرون بالسيدة مايسة مهندسة الاتصالات فعادت بسرعة من عملها لتفاجئها صدمة وفاة زوجها ووجود جثته في طرقة الطابق، تحديداً بين شقتي هبة ومي.

لم تنتظر زوجة القتيل، رغم انهيارها وذروة انفعالها، التحقيقات ولا التحريات، وراحت تؤكد أن زوجها فارق الحياة في إحدى الشقتين سواء رقم 29 المجاورة لها والتي تسكنها هبة، أو الشقة رقم 30 المواجهة لشقتها والتي تسكنها مي، وأن الجارة التي مات الزوج في شقتها ألقت جثته في طرقة الطابق لتتخلص منها، الاتهام كان واضحاً وصريحاً ومرعباً للجارتين بما يشير إلى وجود علاقة بين القتيل وبين إحدى الجارتين، بدأت التحقيقات على قدم وساق، ضباط المباحث وكأنهم في خلية نحل للكشف عن غموض الواقعة، ومعرفة سبب وفاة السيد عامر ووجود جثته خارج شقته. بل كان السؤال الأهم، لماذا لم يذهب عامر إلى عمله بينما يثبت هاتفه المحمول أنه تلقى مكالمة من زوجته في الحادية عشرة صباحاً أبلغها فيها أنه في مقر عمله في مدينة نصر. وكانت المفاجأة الكبرى في مقر عمل عامر حيث تأكدت الشرطة من أن عامر لم يذهب إلى عمله على الإطلاق في هذا اليوم، لتتوالى المفاجآت ساعة بعد أخرى.

البيجاما الزرقاء

استدعت النيابة سكان العمارة للاستماع إلى شهادتهم، وكان في مقدمهم بواب العمارة، الذي قال في شهادته: «كنت أجلس على باب العمارة كالمعتاد، وقبل لحظات من صراخ السيدة هبة فوجئت بحقيبة بلاستيك تسقط من أعلى العمارة، من دون أن أستطيع تحديد من أي دور سقطت. اندفعت إليها وقلبتها يميناً ويساراً، ثم فتحتها فوجدت في داخلها بذلة سوداء وحذاء وجوارباً بيضاء وقميصاً وربطة عنق وساعة يد وخاتماً ذهبياً، عليه اسم مدام مايسة. وهذه الملابس أقرب ما تكون إلى ملابس الأستاذ عامر، وقد سلمتها قبل حضوري إلى هنا للسيدة مايسة زوجته، ولا أعرف ماذا فعلت بها».

• وكيل النيابة: هل غادر المجني عليه العمارة صباح اليوم في موعده المعتاد؟

•• لم يخرج على الإطلاق، لكن هذا يحدث في أيام أخرى بعد أن تخرج زوجته ألاحظ أنه لا يخرج كعادته بعدها بنصف ساعة.

انتهت أقوال البواب وجاء الدور على الزوجة فإذا بها تلقي بمفاجآت من العيار الثقيل، قالت: «سلمني البواب الحقيبة البلاستيك، وتأكدت أن فيها ملابس زوجي، وفي سترة البدلة حافظته وفيها بطاقته العائلية وثلاث شهادات خاصة بالنقابة والنادي والحزب، وهذا يؤكد اتهامي لإحدى الجارتين لأن الحقيبة تم إلقاؤها من الطوابق العليا لتتخلص من آثار وجود زوجي في شقتها، وهي إما قتلته أو أنه فارق الحياة قضاء وقدراً فتخلصت من جثته بإلقائها أمام الشقق الثلاث. أصر على اتهاماتي ولن أتراجع عنها، خصوصاً أن لدي دليلاً آخر لا يقبل القسمة على اثنين ولا يتطرق إليه الشك من قريب أو بعيد».

• ما هو؟!

•• زوجي فارق الحياة كما رأيتموه يرتدي بيجاما زرقاء علماً بأنه لم يلبس البيجامات طوال عمره. كان يجلس في بيته بلباس الرياضة، فمن أين جاءت البيجاما الزرقاء فوق جثته، هذا يعني أنه غيَّر ملابسه في شقة مي أو هبة وارتدى البيجاما ثم حدث ما حدث.

• هل كان زوجك يخونك مع إحدى السيدتين رغم أنك أكدت أنه رجل لا يمكن أن يرتكب هذه الجريمة لفرط إخلاصه لك.

•• وما زلت أؤكد أنه زوج مخلص، لكن الرجل مهما كان إخلاصه قد يضعف أمام إغراءات امرأة سهلت له الطريق إليها.

من تكون؟!

المثير أن تشريح جثة الأستاذ عامر أثبت أن الوفاة طبيعية مع استبعاد أي شبهة جنائية، ورغم أن المباحث استراحت بهذا التقرير الذي يوفر عليها بذل أي مجهود في البحث عن القاتل، فإن السيدة مايسة لم تسترح ولم تهدأ ولم تمل من بذل الجهد، وطلبت من النيابة نسخ أقوال الشهود والجارتين لتعيد بنفسها تأمل الواقعة والبحث عن المرأة التي كان زوجها يخونها معها. قررت بينها وبين نفسها ألا تهدأ إلا بعد أن تجد الجواب عن السؤال الحائر: من تكون تلك المرأة التي سلبت منها زوجها؟!

تقمصت مايسة شخصية المحقق الشهير شرلوك هولمز للبحث في تفاصيل وفاة زوجها الغريبة والمثيرة. لم تترك صغيرة ولا كبيرة فوق الأوراق ولا بين السطور إلا ووضعتها تحت ميكرسكوب المرأة بذكاء فطرتها، لكن النتيجة دائماً لا شيء، فالبصمات فوق الحقيبة البلاستيك ليست سوى بصمات البواب والزوجة، ولا بصمات لهبة أو مي، والنتيجة نفسها على البيجاما الزرقاء فلا بصمات سوى بصمات لمي. لكن ثبت أن الأخيرة حينما فتحت باب شقتها ظنت في البداية أن الأستاذ عامر مغشى عليه، وباعتبارها طبيبة راحت تقلبه يميناً ويساراً حتى اكتشفت أنه ميت فشاركت هبة الصراخ في لاوعي، وبالتالي كان طبيعياً أن تكون بصماتها فوق البيجاما الزرقاء لزوجها الميت.

كانت النيابة بدورها تستعد لإغلاق ملف القضية، فصرحت بدفن الجثة وحفظ التحقيقات. لكن مايسة لم تهدأ، ولم تتقبل العزاء طلباً للثأر على طريقة أهل الصعيد في جنوب مصر. أغلقت عليها بابها، ولم تعد ترد على أرقام الهواتف إلا من تعرف أنه من أهلها، كذلك حصلت على إجازة من دون مرتب من عملها كي لا تقابل أحداً من زملائها. ظلت داخل شقتها ليلاً نهاراً تجتر شريط الأحداث منذ أن سكنت هذه العمارة، بدأت تفكر بطريقة ضابط مباحث في حالة تحد بحثاً عن الجارة التي تتوافر فيها الشروط الخاصة بالخيانة، والتي يمكن أن تكون شريكة في جريمة التخلص من زوجها.

بدأت مايسة في بحث موقف جارتها هبة، فهي من النساء اللاتي لا يخطلتن بأحد من الجيران، فضلاً عن أن عامر لم يكن يطيق رؤيتها وكان يخبر زوجته دائماً أنه يتشائم إذا رآها في الصباح، ولم يكن يحترمها لسوء معاملتها لزوجها وشتائمها له بصوت مرتفع. أما مي فترددت على شقتها أكثر من مرة في مناسبات محددة من بينها قياس ضغط الدم، لأن مايسة تتعرض لأزمة صحية معتادة بسبب إصابتها بحساسية الصدر، لكنها كانت محتشمة الملبس وعفيفة اللسان ولا تتعمد الحديث مع زوجها أو عنه حتى تنتهي زيارتها السريعة، بالإضافة إلى كونها زوجة طبيب وبينهما حب كبير.

وسألت مايسة نفسها لو كانت هبة ومي بريئتين، فهل كان زوجها مع امرأة في الطابق السفلي، خصوصاً أن الطابق العاشر خال من السكان؟ ولم تريحها هذه الإجابة أيضاً لأن المرأة لو كانت في الطابق الأسفل فسيكون صعباً عليها أن تصعد بالجثة إلى طابق أعلى، وتعرض نفسها لمخاطر جسيمة. وهكذا كانت مايسة سرعان ما تعود إلى تفكيرها السابق، لا بد من أنها واحدة من اثنتين، هبة أو مي، لأن التخلص من الجثة أمام باب شقة إحداهما لن يستغرق وقتاً أو مجهوداً. عندما وصلت مايسة إلى هذه النقطة من التفكير توقف عقلها ولم تعد تعرف كيف تحل هذا اللغز الذي بدا لها بلا حل. في النهاية فوضت مايسة أمرها إلى الله، تبحث لديه عن العون والمدد.

بلاغ أخير

ذات ليلة وبعد عام تقريباً من هذا الحادث المثير، خرجت مايسة من عزلتها حينما علمت بنبأ وفاة زوج هبة. امتلأت شقة الأخيرة بالمعزين فيما رفضت مايسة أن تقدم لها العزاء، ربما كانت أيضاً سعيدة بفقدان هبة لزوجها كي تختبر حالة اليتم التي تصيب الزوجة برحيل زوج تحبه، إنه اليتم الذي لا فرح بعده. ويبدو أن الأحداث في العمارة رقم 103، تأبى أن تتوقف. حضرت شقيقة زوج هبة من إحدى الدول العربية على أول طائرة بعد وفاته، قدمت بلاغاً إلى النيابة تطالب فيه بتشريح جثة شقيقها، واستخراجها من قبره حيث دفن من دون أن يكشف عليه طبيب الصحة كما بلغها، وقالت في أسباب بلاغها إنها تلقت من أخيها أكثر من مكالمة في الأسابيع الأخيرة كان فيها قلقاً للغاية وتساوره شكوك رهيبة في أن زوجته تدبر له أمراً ما بعد أن اكتشف خيانتها له رغم أنه لم يواجهها بهذه الخيانة.

صرحت النيابة باستخراج الجثة من قبرها وأثبت الطب الشرعي بعد تشريحها أن زوج هبة، مات مقتولاً أثر تناوله مادة سامة. أذهلت المفاجأة الجميع، وحاولت هبة نفي التهمة عن نفسها حتى ضاق عليها الخناق وبدأت تعترف، لتتكشف الحقائق وتتوالى المفاجآت، قالت: «كان زوجي يمضي معظم نهاره وليله خارج البيت، وكنت ألتمس له العذر بعدما أصابه مرض منعه من مباشرة حقوقه كزوج، صبرت طويلاً وتحملت قسوة الوحدة والحياة بلا رجل يمنحني أبسط حقوقي. فكرت في الطلاق لكنه توسل إلي وراح يرجوني ألا أدمر البقية الباقية من حياته».

 وتكمل هبة قائلة: «ذات يوم تقابلت بالمصادفة مع زوج جارتي مايسة داخل المصعد، كان جريئاً على عكس ما تدعيه زوجته، هنأني على ذوقي في اختيار نوع العطر الذي وصفه بأنه جعل المصعد جنة من جنات الأرض. كان يمكن أن أتجاهله، لكني امرأة ضعيفة بلا رجل ومن الطبيعي أن تهزها كلمة إطراء أو غزل، وبلغت جرأته أن طلب رقم هاتفي، بعدها توالت المكالمات من خلف ظهر زوجته التي تعتقد أن زوجها أخلص أزواج الدنيا، حذرته أكثر من مرة أن تكتشف زوجته علاقتنا فكان واثقاً من نفسه لأن زوجته على يقين من أنه يتشاءم مني وأنه نجح في إبعاد أي شبهة عن نفسه».

 وقبلت أنا هذا الوصف على نفسي ما دام يبعد شكوك مايسة عني، وتطورت علاقتنا سراً. وفي اليوم الموعود لم يذهب عامر إلى عمله مثلما اعتاد بين حين وآخر، خرج من شقته إلى شقتي مباشرة وفقاً لترتيبات دقيقة اشتركنا فيها. لكنه ما إن لبس البيجاما الزرقاء حتى فارق الحياة وأصابني بالارتباك. كانت الساعة العاشرة صباحاً والحركة هادئة داخل العمارة، تخلصت من الجثة والملابس واعتقدت أن كل شيء انتهى. لكني لم أتنبه لحكاية البيجاما الزرقاء إلا عندما حضر زوجي وشاهد الجثة وأيقن أنها البيجاما الخاصة به. رأيت اليقين في عيني زوجي وثقته من أن جاره كان ضيفاً في شقتي.

لم أشعر لحظة بعد هذه النظرات بالراحة النفسية، كنت واثقة من أنه سيقتلني، وقررت أن أخطط لأقتله أولاً، قبل أن ينفذ هو جريمته وأكون ضحيته. نعم، أنا أخطأت حينما لم أصر على طلب الطلاق من زوجي منذ البداية فوقعت في الفتنة، وأخطأ زوجي عندما لم يطلقني وتركني مع دموعي للوسادة الخالية، وأخطأ زوج مايسة لأنه لم يستطع أن يقاوم رائحة عطري. مات اثنان وبقيت أنا، أعرف أنني في الطريق إلى عشماوي.

وفعلاً قضت المحكمة بإحالة أوراقها إلى مفتي الديار المصرية، وقابلتها بعد أيام من صدور الحكم بإعدامها، وكانت متماسكة إلى حد كبير عندما خرجت لمقابلتي في غرفة مأمور سجن النساء. حكت لي قصتها كاملة بهدوء تحسد عليه، ثم انهمرت دموعها كالمطر وهي تطلب مني الذهاب إلى محل سكنها، وأن أخبر مايسة بأن زوجها لم يكن يخونها مع هبة فقط، وأن لديها ما يثبت لها علاقات زوجها مع نساء آخريات ولهذا فإنها تدعوها إلى زيارتها، قبل تنفيذ حكم الإعدام عليها لتدلها على أدلة خيانة زوجها لها قبل أن يتعرف إلى هبة، قالت لي في ختام حديثها: «هذه وصيتي لك أرجو أن تنفذها لي، سارع في إحضار مايسة»، خرجت من عندها وتركت السجن وطبعاً لم أنفذ لها ما طلبت.