دروس الماضي تقدم لنا أرضية صلبة لبناء مستقبلنا الذي تحتمه علينا الظروف القاسية التي تحيط بنا، والتي نساهم دون وعي في فرض قسوتها. نحن أمة لا تعرف كيف تعتذر عن أخطائها التاريخية، وربما نحن الأمة الوحيدة التي تدفن مآسيها ثم تقوم برعايتها لتنمو إرهابا وقتلا، وتكون عرضة لكل من أراد أن يقوم بهذا الدور. نحن أمة لا تريد أن تخرج من عباءة ماضيها وحروبه وثقافة النزاع على شخوصها التاريخية، والتحقق في من كان على حق ومن كان على نصف حق أو ربعه. نحن أمة لا تريد أن تنهض، هكذا بكل بساطة، لا تريد أن تعي أو تدرك أو حتى تستفيد من بعض النور الذي مر بها في السنوات الأولى من نهضتها المرتبكة والمربكة.

Ad

نحن أمة تمتلك قدرة خارقة على صنع التفكك ورعاية التشرذم، وتعشق بكل دمها هواء الانحطاط. أمة غيبت مفكريها وأخرجت تافيهها ليستولوا على إعلامها ومنابر فكرها، ويقودوا شبابها ليعيشوا حروبا يشعرون بالأسى البالغ لأن زمن تلك الحروب لم يكن زمنهم. نحن أمة لا ترى إمكانية في التعايش، وهي تتكلم لغة واحدة ولها تاريخ واحد ومستعدة للدخول في معارك لفشلها في تقبل الطائفة والدين الذي ينتمي اليه العربي الآخر.

المثال الذي أثار حزني على هذه الأمة المسكينة المتهالكة رغم تبجحها هو ما حدث في الأسبوع الماضي في مقاطعة "كيبيك" الكندية، التي كانت تعرف باسم فرنسا الجديدة. مقاطعة كيبيك لها خصوصية لا تجدها في بقية المقاطعات الكندية الأخرى. فهي الأكبر مساحة (أكثر من مليون ونصف كيلومتر مربع) والوحيدة التي تتكلم اللغة الفرنسية وتستخدمها كلغة رسمية في المقاطعة، وعلى الحكومة الفدرالية أن تستخدم اللغتين الفرنسية والإنكليزية في جميع أعمالها إرضاء لها لدخولها الفدرالية. هذه المقاطعة كانت مؤهلة دائما لأن تكون دولة قائمة بذاتها، وكل ما يتطلبه الأمر هو تصويت شعبها على مذكرة الانفصال لتنفصل. في محاولتين سابقتين عامي 1980 و1995 تم التصويت على انفصال المقاطعة عن الوطن الأم، لكن النتائج جاءت ترفض الانفصال والبقاء تحت الحكم الفدرالي للعاصمة أتاوا.

المقاطعة ثقافيا وإداريا أقرب الى فرنسا من بريطانيا وأميركا، لكنها أبعد عن فرنسا جغرافيا، وعليها أن تقبل التعايش مع وطنها متسامحة مع الآخر رغم سيل الدماء التاريخي الذي بدأ منذ حرب السنوات السبع بين فرنسا وبريطانيا، وليقتتل بسببه الفرنسيون والبريطانيون هنا في كندا. كانت النتائج مروعة للفرنسيين وتم تهجير كل من يتكلم الفرنسية ليجبروا على الإقامة في كيبيك. وبسبب كل تلك الدماء وهذا النزاع التاريخي والشعور بإحساس الأقلية يحاول الحزب الحاكم "حزب كيويبك" أن يستخدم النعرة القومية لإشعال الفرنسيين والدعوة إلى انتخابات، معتبرا فوزه فيها بحكومة أغلبية نتيجة حتمية للانفصال. لكن ما حدث الأسبوع الماضي هو العكس، هزم الحزب لصالح الحزب الليبرالي هزيمة مذلة، ولم تستطع رئيسة الحكومة الحفاظ على مقعدها ليسقط الى الأبد استقلال دولة كيوبيك.

ما الذي يجعل شعبا لا يمت للأغلبية بصلة، ويحمل عداء تاريخيا طويلا من المحافظة على وحدته، ويطمح كل ثلاثة أنفار في العالم العربي في البحث عن دولة خاصة بهم. الإجابة عن هذا السؤال بسيطة جدا، لأننا شعوب لا نثق بمستقبلنا مع بعضنا، لا نثق بالتعايش مع الآخر وتقبل اختلافه. ولأننا لم نتعلم كيف نطوي ماضينا المؤلم وإبراز جمالياته. أمة لم تتعلم كيف تعتذر عن أخطائها وخطاياها.