حب على شاطئ الإسكندرية (14)

نشر في 12-07-2014 | 00:02
آخر تحديث 12-07-2014 | 00:02
سالم بسعادة وفي لهفة: حمدالله على السلامة، إيه المصادفة الحلوة دي؟ مقلتيش يعني أنك جاية؟

مديحة في ارتباك مغلف بخجل: أنا لقيت البحر وحشني فقلت لازم أجي.

سالم بسعادة: رب مصادفة خير من ألف ميعاد.

ثم تابع مبتسماً: أنا سعيد إنك هنا... (مرتبكاً) يعني كنت بدأت أزهق وكنت حأرجع مصر بس وجودك حيخليني أقعد لآخر الإجازة.

صعدت مديحة إلى حجرتها، رتبت أغراضها وبدلت ملابسها واطمأنت على زينتها، ثم لحقت بسالم الذي كان ينتظرها في بهو الفندق، كانت سعيدة بما لا تخطئه العين، فقد حقق لها القدر ما كانت تتمناه وتحلم به.

هو أيضاً لم يستطع إخفاء سعادته وفرحته برؤيتها، تأكد أن القدر حسم أي ذرة تردد في داخله، وبات عليه البوح بحبه، كذلك تبدد شكه في استقبالها لمشاعره، باختصار حسم الأمر.

لم ترحب مديحة بمغادرة الفندق إلى مكان آخر يتناولان فيه طعام الغداء، وهو ما استوقف سالم، لا سيما أنه يعرف جيداً رغبتها في التنزه ورؤية كل ماهو جديد.

اختارت مديحة مكاناً منزوياً بعيدا عن العيون، مع أنه لم يكن مشمساً إلا أنه فوجئ بإصرارها على ارتداء نظاراتها الشمسية، شعر كما لو كانت حريصة ألا يراها أحد بصحبته، ما أصابه بحالة من الضيق لم يستطع إخفاءها فسألته: مالك يا أحمد، حاسة في حاجة مضيقاك؟

فاجأها قائلا: أنت؟

باندهاش قالت: أنا؟ ليه عملت إيه؟

سالم محتداً: ليه رفضت تخرجي معايا، وليه لابسة نضارة كأنك خايفة حد يشوفك معايا، وده نفس اللي كان بيحصل وإحنا في مصر، هو أنا عمري اتصرفت معاك بطريقة مش مناسبة أو...

قاطعته مديحة: أرجوك وطي صوتك شويه الناس بتبص علينا.

تلفت سالم حولهما وتابع: ممكن أفهم في إيه؟ أرجوك يا مديحة اتكلمي، أنا فعلا مش فاهم إيه اللي بيحصل.

صمتت لبرهة، ثم استجمعت كل شجاعتها وقالت: أنت عارف أننا فنانون والناس عرفانا، كمان أنا لسه متطلقة قريب وأنت كمان، والصحافة مش رحمانا، أنت قريت «الكواكب» العدد اللي فات؟

سالم: لا مقرتش... كاتبين إيه؟

بخجل قالت: بيقولوا في بينا علاقة حب.

تعالت ضحكاته وقال: عندهم حق.

باستنكار: عندهم حق؟ ثم أنت بتضحك على إيه؟ إيه في كلامي يضحك.

سالم: بضحك لأن كل الدنيا فاهمة اللي إحنا مش عارفين نقوله لبعض.

كانت كلماته أقرب إلى صاعق كهربائي لمس كل كيانها فأقعدها بلا حراك، فيما تابع قذائفه: بقى علشان كده كنت بتهربي مني، ولما أقولك نخرج تعتذري، طبعاً ما أنا «دنجوان» والناس كلها بتخوفك مني.

همت بمقاطعته، إلا أنه باغتها بأن خلع عنها نضارتها قائلا: ممكن بلاش تخبي عني عيونك الجميلة دي؟

مجدداً أسقط بيدها ولم تستطع الردّ، فيما تابع هجومه بشراسة وقبض على يديها، قائلا: معقولة مش حاسة أنا بحبك قد إيه؟

كلام في الحب

كانت نبضات قلبها تتصاعد بقوة، فيما حاولت أن تسحب يدها إلا أنه ضغط عليها قائلا: تتجوزيني يا مديحة؟

قالت عيناها ما عجز لسانها عن البوح به، حكت له مشاعرها وكيف تمنت هذه اللحظة وانتظرتها طويلا، وكيف كانت تتعذب وهي تتابع ابتعادها عنه بسبب ما كان يتردد حولها، اعترفت بخوفها «من كلام الناس» وما يتردد حوله عن تعدد علاقاته و...

كان يستمع إليها باهتمام، محاولا بين الحين والآخر مقاطعتها لتوضيح أمر ما، أو تفسير واقعة أخرى، كان حريصاً على أن يزيل كل شك علق في روحها قبل عقلها، مؤكداً رغبته في الاقتران بها، وأنه لم يفاتحها لأنه ينتظر إتمام أشهر عدتها، وقبل أن يغادرا المكان وينتقلا إلى آخر، كانا قد اتفقا على أدق التفاصيل، في مقدمها التقدم لأهلها طلباً ليدها على أن يتزوجا مع نهاية الفيلم ليتفرغا لقضاء شهر العسل.

أمضيا ما تبقى من أيام الإجازة يجوبان في سعادة كل الأماكن التي تعشقها مديحة، كانت سعادتها هذه المرة مختلفة، والأهم أنها لم يتملكها أي شعور بالخوف أو القلق، وكأن الحب منحها قوة وثقة والأهم سعادة.

وعندما عادا إلى القاهرة، زار سالم أهلها وطلب يدها من والدها الذي بدوره رحب بعدما تأكد من مشاعر مديحة تجاهه ورغبتها في الاقتران به، ومرة أخرى وجدت مديحة نفسها تقارن بين موقف والدها وعدم قبوله، بسلاسة، فكرة زواجها من فنان في المرة الأولى، وكيف رحب بهدوء هذه المرة، لم تفهم هل شخصية سالم كانت أكثر حضوراً ومن ثم إقناعاً من زوجها الأول محمد أمين، أم والدها هو الذي تغير وبات أكثر تفهماً وتماشياً مع «متغيرات الحياة» ومستجداتها.

وفي أول يوم استأنفا فيه التصوير، أعلن سالم ارتباطه بمديحة، وأنهما سيتزوجان مع آخر يوم تصوير، وفعلاً احتفلا بزفافهما وسط أسرة الفيلم، بعدما استأجرا شقة جديدة تلبية لرغبة مديحة، وهو ما لقي قبولا من سالم.

مع أن مديحة قررت التخلي عن فكرة الزواج بعد انفصالها عن أمين والتركيز في الفن لكنها استسلمت ورفعت راياتها أمام كيوبيد.

تقول: «أحببت سالم فعلا، كان خلوقاً ورومانسياً وشديد الكرم والطيبة، وهو أكثر ما أعجبني فيه وجعلني أحبه وأتعلق به حتى بعد وفاته».

زواج مديحة يسري من سالم زاد من اختلاطها بالوسط الفني، وأصبحت ضيفة دائمة على السهرات الفنية، وأكثر حرصاً على اقتناص كل فرصة للسفر تارة إلى الإسكندرية، وأخرى إلى الفيوم، وثالثة إلى أوروبا، فكل منهما يعشق السفر، إلا أن كل هذه النشاطات لم تبعد مديحة عن الفن، إذ شاركت في أكثر من فيلم أبرزها: «معروف الإسكافي» للمخرج فؤاد الجزايرلي، «أسير الظلام» للمخرج عز الدين ذو الفقار الذي كان يلقب بشاعر السينما المصرية وأبو الرومانسية، نظراً إلى الأفلام التي قدمها وتندرج بجدارة تحت هذا التصنيف، أبرزها: «رد قلبي»، «نهر الحب»، «بين الأطلال» وغيرها، وقد بدأ حياته ضابطاً في الجيش المصري قبل أن يستقيل ويتفرغ للسينما مثلما فعل شقيقاه محمود وصلاح.

 كذلك شاركت سالم «ابن عنتر»، فيلمه الثالث كمخرج، وجسدت شخصية ابنة الأمير الذي يسعى الفارس العربي إلى الارتباط بها، ويخوض من أجلها حرباً ضد الملك الوثني الذي يريد الارتباط بالأميرة الشابة، وقد لاقى الفيلم نجاحاً، كذلك مديحة، ما حمس المنتجين والمخرجين للتعاون معها، فانهالت عليها العروض.

 لم يرفض سالم أن تتعاون فنياً مع مخرجين أو منتجين غيره، وفي المقابل لم يكن حكراً عليها بل قدم من دونها أفلاما مثل: «الماضي المجهول»، «البريمو» و{شمشون الجبار»، قبل أن يلتقيا معاً في «المستقبل المجهول» الذي شاركتهما بطولته نور الهدى.

يعتبر النقاد الفيلم بداية تنويع مديحة بأدوارها، بعيداً عن الفتاة الأرستقراطية أو الحسناء الجميلة، إذ جسدت من خلاله شخصية نادية، فتاة في مقتبل العمر تقضي الحرب على أسرتها، فتصاب بانهيار عصبي وتحاول الانتحار، لكن يسوق لها القدر الدكتور «أحمد» (سالم)، فينقذها من الموت، وحين تسترد الحياة يكتشف أنها فقدت الذاكرة، ومع الوقت يتحول عطف الدكتور أحمد إلى حب، فيتزوج من نادية وينجب منها طفلا، إلا أنها كانت دائمة التصرف بشكل غير طبيعي حتى أنها تتركه وطفلها وتختفي، وعبثاً يبحث عنها بلا جدوى، فيما تسانده سميرة جارته لفترة طويلة، وعندما يفقد الأمل في عودتها أو معرفة مصيرها، يقرر الزواج من سميرة. لكن القدر يفاجئه بعودة نادية فتدرك أن مشاعره تحولت باتجاه غريمتها سميرة، بعدما تفشل في تبرير مكان اختفائها، فيما يتأكد أحمد أن نادية تملّك منها المرض، فتعد لسميرة مشروباً مسموماً بغرض قتلها، ولكن يتناول طفلها هذا الشراب المسموم فيموت أمامها، ما يدفع نادية إلى أن تتجرع المشروب نفسه لتموت مع طفلها.

مجاملات

نجاح «المستقبل المجهول» حمس مديحة لتقديم أعمال أخرى مختلفة، كذلك شجع الآخرين على كسر حصارها بأدوار محددة، حتى فوجئت يوماً بيوسف وهبي يرسل إليها سيناريو فيلم «رجل لا ينام»، طالباً منها قراءته بعناية على أن يجمعهما لقاء بعده لتخبره برأيها.

أدرك وهبي أن مديحة ستخشى طبيعة الدور المعروض عليها، كونه رشحها لتجسد شخصية فتاة تغني في ملهى ليلي، وتبتز طبيباً يحبها لتعطي الأموال لعشيقها، وهي نوعية من الأدوار لم تكن قد قدمتها منذ احترافها التمثيل، ورغم أن رصيدها السينمائي قد وصل إلى 20 فيلماً تقريباً.

قرأت مديحة الفيلم وأبدت رفضاً مبدئياً لكنها توجهت إلى مكتب يوسف وهبي وجلست معه.

وهبي: إزيك يا مديحة.

مديحة: تمام يا أستاذ.

وهبي: قرأت الفيلم؟

مديحة بحسم: آه يا أستاذ.

وهبي: وإيه الأخبار؟

مديحة: بصراحة يا أستاذ أنا مش بلاقي نفسي في النوعية دي من الأدوار أنت عارفني و...

قاطعها وهبي قائلا: علشان عارفك كويس ومتأكد من موهبتك شايف أنك لازم تنوعي في أدوارك، وتقدمي أدواراً تفاجئ الناس، كمان أنت مش هتعملي مشاهد إغراء عشان تقلقي فليه ترفضي؟ فكري يا مديحة.

مديحة: بس يا أستاذ.

قاطعها وهبي مجدداً قائلا: مفيش بس أنت، خلاص وافقت والعقد موجود، ناقص أنك تمضيه علشان نبدأ الأسبوع الجاي.

غادرت مديحة مكتب يوسف بك وهبي عائدة إلى منزلها، وتحدثت مع زوجها، الذي نصحها بتقديم الدور كنوع من التغيير، ولم يبد أي اعتراض، بل شجعها على تغيير جلدها، مؤكدا أنها موهوبة، ولا بد من أن تثبت موهبتها بتقديم أدوار جديدة.

كان من عادة مديحة أن تستشير سالم في أعمالها كافة حتى التي تقدمها خارج شركته لقناعتها بأن رؤيته وخبرته في السينما ستفيدها كثيراً.

قدمت مديحة الفيلم وبمجرد أن شاهدته بدور العرض في نهاية 1946 حتى قررت أن تسقطه تماماً من حساباتها وبشكل كامل، فلم تشعر بالرضا عنه، وحتى الآن كلما شاهدته في التلفزيون تشعر بالغضب.

تقول مديحة: «الفيلم هو أحد عملين أسقطهما دوماً من حساباتي، لأنني قدمت فيهما نوعية من الأدوار لا أحب أن أقدمها ولا أفضل أن يراني الجمهور فيها، غير أنني لم أستطع رفض طلب للأستاذ يوسف وهبي، فلقد كان بمثابة والدي ومعلمي في الفن، غير أن الدرس المستفاد من هذه التجربة أنني تأكدت بعد هذا الفيلم أنني لا أصلح لتقديم هذه النوعية من الأدوار رغم وسامتي».

الجرأة التي تمتعت بها مديحة في اختياراتها دفعتها إلى الموافقة على المشاركة في بطولة فيلم «المصري أفندي» مع حسين صدقي، وأدت فيه دور الأم للمرة الأولى على الشاشة في أحد أكثر الأفلام الميلودرامية في تاريخ السينما المصرية. تمحورت الأحداث حول مهندس شاب تنجب له زوجته أطفالاً كثراً يعتبرهم نقمة وليسوا نعمة عليه، حتى يفقد أبناءه الواحد تلو الآخر، ولا يتبقى له سوى ابنة مشلولة، بينما ظهرت مديحة في دور والدة حسين صدقي الذي أدى دور الابن.

ارتبط الأداء التمثيلي لسمراء النيل خلال تلك الفترة بدرجة من الواقعية، واعتبره البعض آنذاك بمثابة نقطة الضعف لها، فلم تكن مفعمة بالشجن في المشاهد الحزينة على غرار باقي نجمات جيلها، لكن مع مرور الوقت أثبتت أن التلقائية والواقعية في التمثيل أهم ما يميز موهبتها.

حب حياتها

أحب أحمد سالم مديحة يسري بجنون، ورغم ما عرف عنه من تعدد علاقاته النسائية، فإنه لم يكن يرى غيرها، وفعلاً تلمس كل من عرفهما مدى حرصه على الاهتمام بها وإسعادها واصطحابها إلى أي مكان تختاره. ومن جانبها حرصت على الاهتمام بأموره كافة، ومصالحته مع الحياة التي تخبط فيها طويلا وفقاً لاعترافاته لها، هكذا دفعته إلى زيارة ابنته نانا التي أنجبها من زوجة سابقة، وذكرته بضرورة أن يكون إلى جوارها ويسأل عنها، بل كانت بمثابة أم ثانية للطفلة الصغيرة التي ظلت على تواصل معها حتى بعد وفاة سالم.

خلال فترة زواجها من أحمد سالم، شجعته على العمل وزيادة نشاط شركته في الإنتاج والتوزيع حتى لو لم تكن فيها، فقدم فيلمي «المنتقم» و{حياة حائرة» مع نور الهدى، من إخراجه وبطولته.

بعد «رجل المستقبل»، التقى مديحة وسالم في «دموع الفرح»، وجسدت فيه شخصية ابنة قاصر يتولى عمها مسؤولية إنفاق أموالها، بينما يخبرها السائق الذي يعمل لديهم أن عمها يبدد أموالها، فتنشأ بينهما قصة حب تنتهي بالزواج على غرار الأفلام التي قدمت في تلك المرحلة.

اعتبر النقاد الفيلم «نكوصا» وعودة إلى الأعمال التقليدية التي كانت مديحة تحررت منها مرحلياً، فالعمل لم يقدم جديداً أو اختلافاً عن السائد والمتداول سينمائياً.

ومثلما كانت «دموع الفرح» آخر أفلامهما، كانت أيضاً آخر أفلام سالم، إذ داهمته آلام الزائدة الدودية، فانتقل إلى المستشفى للخضوع لجراحة عاجلة، إلا أنها لم تمر بسلام نظراً إلى إصابة سابقة (حادثة إطلاق النار في مشاجرته مع زوجته السابقة أسمهان)، إذ تدهورت صحة سالم، ودخل في غيبوبة كاملة لمدة تسعة أيام، وكانت مديحة إلى جواره في المستشفى، ولم تفارقه لحظة، بينما كانت زوجته السابقة تحية كاريوكا والفنان الشاب محمد فوزي الذي كان يرتبط بعلاقة صداقة قوية مع سالم أكثر من يترددون عليها.

فارق سالم الحياة بعد صراع قصير مع المرض، فيما السمراء الفاتنة كتب عليها مجدداً الوحدة، وفرضت على نفسها اعتكافاً في منزلها لم تخرج منه إلا بقصة حب جديدة كان بطلها...

back to top