التاريخ الإسلامي زاخر بالازدواج «الخليفي»، الآن دونكم الوضع الحالي: خليفتان واحد في العراق والثاني في سورية يتقاتلان كأنهما ألد الخصام، والثالث متوار عن الأنظار، وجميعهم قدموا لنا، وهم في بداية أمرهم، ما نخشاه من اتساع أمرهم، فكيف سيرحم أهل الملل الأخرى من لا يرحم أهل ملته؟ وكيف سيأخذنا إلى المستقبل من يريد العيش بالماضي؟

Ad

لولا هذه الإضافة "في هذا العصر" لقلت إن من كتب أمس موضوع أكثر من خليفة للمسلمين في وقت واحد في جريدة "الراي" لم يقرأ التاريخ الإسلامي الزاخر بتعدد الخلفاء وتعدد الفتاوى الدينية التي تبرر ذلك الانقسام.

ولقد حمل لنا التاريخ عشرات الأمثلة لوجود خليفتين للمسلمين في وقت واحد، وغالباً ما ينتهي الأمر بينهما بمقتل من أعلن نفسه خليفة بوجود خليفة استقر له الأمر، وتاريخ الدولتين الأموية والعباسية يعج بمثل هذه الأمثلة لدرجة أن الخلاف في بعض المرات نجده يقع داخل بيت الخلافة نفسه، ففي البيت الأموي نذكر مقتل الخليفة الوليد بن يزيد على يد ابن عمه يزيد بن الوليد، أما البيت العباسي فأشهر قتلاه الخليفة الأمين على يد أخيه المأمون.

ولعل أبرز الملاحظات على أغلب حالات الازدواج "الخليفي" أي وجود أكثر من خليفة في وقت واحد هو فشل الجديد وبقاء المستقر، بل إن الأغرب هو صمود ونجاح بعض من حاولوا انتزاع الحكم على أرض أو قلعة من نظام الخلافة؛ لينتهي الأمر برضوخ الخليفة للواقع الجديد لفترة من الزمن، حتى تتهيأ له أو لمن سيأتي بعده الفرصة الملائمة لاسترجاع ما أخذه منه، ولكن عندما يتعلق الأمر بكرسي الحكم واستبدال أسرة مكان أسرة نجد أن الوضع وطريقة التعامل معه يختلفان بصورة جذرية لا مكان للسياسة فيها.

المثال الأقوى لحالة الازدواج "الخليفي" وقعت بوجود دول كبيرة تحكمها أسر مستقرة هي العباسية في بغداد والفاطمية في القاهرة والأموية في قرطبة، ولقد أدى تدهور مركزية نظام الخلافة في بغداد منذ وفاة الخليفة المتوكل وضعفها في بقية أطراف الدولة الممتدة من أقصى الشرق إلى المغرب الأقصى، إلى ظهور الكثير من المنافسين، لا بل إن الدولة العباسية وفي أوج قوتها إبان حكم الخليفة المنصور عجزت عن ضم بلاد الأندلس التي تحولت إلى دولة أموية لا تتبع بغداد ولا تنازعها شؤون الخلافة في الوقت نفسه.

وفي زمن واحد، كان في بغداد الخليفة المقتدر، وفي المهدية في تونس أعلن عبيد الله المهدي نفسه خليفة للمسلمين بعد أن محا دولة الأدارسة في المغرب الأقصى، وأخذ في طريقه دولة الأغالبة التابعة للخلافة العباسية، أما في قرطبة فلم يجد الأمير القوي الذي استعاد وحدة بلاد الأندلس وأرعب ملوك الفرنجة والروم عبدالرحمن الناصر أفضل من التلقب بلقب "أمير المؤمنين" بعد انحطاط بغداد؛ ليسترجع بذلك ملك بني أمية من جديد ولكن من مكان آخر.

وظل هذا الازدواج "الخليفي" لفترة طويلة حتى سقطت خلافة الأمويين من داخلها ليبدأ عهد ملوك الطوائف، وانتهت الدولة الفاطمية على يد القائد صلاح الدين الأيوبي الذي أرجع مصر والشام لسلطة الخلافة العباسية.

إن التاريخ الإسلامي زاخر بمثل هذه الأمثلة وكيف انتهت، الآن دونكم الوضع الحالي: خليفتان واحد في العراق والثاني في سورية يتقاتلان كأنهما ألد الخصام، والثالث متوار عن الأنظار، وجميعهم قدموا لنا، وهم في بداية أمرهم، ما نخشاه من اتساع أمرهم، فكيف سيرحم أهل الملل الأخرى من لا يرحم أهل ملته؟ وكيف سيأخذنا إلى المستقبل من يريد العيش بالماضي؟

لقد زاد اختلال ميزان العدل في بلداننا، والناس سئمت ظلمها وضيمها، وبذلك ظهر وسيظهر من يزعم أنه سيقيم دولة العدل فوق دولة الظلم، وسيجد من ينصرونه ويموتون لأجله، فإلى متى سنبحث عن الحل وهو أمامنا؟