جبرا إبراهيم جبرا العودة إلى {البئر الأولى}
حسناً فعلت دار «الآداب» اللبنانية من خلال العمل على تطوير صفحتها على الفيسبوك وإعادة تذكير القراء بالشخصيات الأدبية والثقافية التي أصدرت كتبها لدى هذه الدار، فكثير من الأسماء المهمة التي لها تاريخها ربما نسيها جيل الفيسبوك.
من الشخصيات التي اختارتها دار {الآداب} أخيراً للتذكير بها الروائي والناقد والمترجم والرسام جبرا ابراهيم جبرا بعنوان {مهندس الرواية العربيّة وفيلسوفها}، هذا الكاتب الشهير الذي وُلد في بيت لحم عام 1920، ودرس في القدس ثم نال منحة دراسيّة إلى بريطانيا وأتمّ دراساته العليا في جامعة هارفرد عام 1951، واستقرّ في بغداد التي اختارها موطنًا دائمًا له بعد نكبة عام 1948.بدأ كتابة القصة القصيرة في فلسطين، ونشر بعض نتاجه المبكر في مجلات نوعية مثل {الرسالة} و{الهلال} المصريتين، و{الأمالي} اللبنانية. ولكن أهم ما أنجزه في تلك المرحلة المبكرة، هي الرواية التي كتبها باللغة الإنكليزية عام 1946 بعنوانPassage in the Silent Night وقد حملها معه إلى كامبردج مطبوعة على الآلة الكاتبة، ووزع نسخاً منها على زملائه في الجامعة. ولم تصدر طبعتها الأولى إلا بالعربية عام 1955، وكان قد أعاد كتابتها بالعربية وهو يدرس في جامعة هارفارد. وقد بعد دراسته في كامبريدج وهارفارد توجه إلى العراق لتدريس الأدب الإنكليزي.
وكان لجبرا شأن كبير في الحياة الثقافية العراقية، حيث أنشأ مع الفنان الكبير جواد سليم {جماعة بغداد للفن الحديث} عام 1951. وكتب مقدمة المجموعة المبكرة {أغاني المدينة الميتة} للشاعر بلند الحيدري. وأثرت صداقته في بدر شاكر السياب الذي أطلع من جبرا على فصول من كتاب {الغصن الذهبي} للسير جيمس فريزر، وهو مما أسهم في اقتناع السياب بالمدرسة التموزية في الشعر. وإلى ذلك كان لنتاج جبرا نفسه من رواية وقصة قصيرة ورسوم ونقد وترجمة أثر كبير في الأجيال العربية المتلاحقة. والنافل أن منزله في بغداد تحول ركاماً بسبب التفجير الانتحاري الذي استهدف مبنى القنصلية المصرية وكانت تسكنه شقيقه زوجة ابنه سدير فقتلت مع ولدها، وأن محتويات الدار من كتب ومخطوطات ولوحات فنية نادرة صارت حطاماً.أديب مشرقي كان جبراً نموذجاً للأديب المشرقي الذي يمكن أن يضيع المرء في تحديد بلده الحقيقي، فهو فلسطيني ولبناني وسوري وعراقي، ومثله في ذلك مثل الروائي الأردني غالب هلسا والشاعر الفلسطيني توفيق صايغ والشاعر السوري - اللبناني يوسف الخال وغيرهم. هؤلاء كانت الثقافة هويتهم وملاذهم ويتشربون من المكان الذي يعيشون فيه، بمعنى آخر كانوا كوزموبولتيين في ثقافتهم وهواهم، ينهلون من التراث والحداثة ومن الشرق والغرب، ومن الأسطورة والواقع.وجبرا بين هؤلاء كان إحدى أكثر الشخصيات العابرة لحدود الأوطان والثقافات، فهو الفلسطيني الآتي من بيت لحم والمتشرب من الثقافة الإنكليزية والتي أمضى حياته في بغداد وعواصم أخرى، وهو الروائي والمترجم والشاعر والرسام والناقد، صنّفت رواياته {البحث عن وليد مسعود} في المرتبة الثانية في قائمة أفضل رواية عربيّة، بعد ثلاثيّة نجيب محفوظ. في هذه الرواية المتشعبة، المعقدة، البارعة التركيب هندسياً وزمنياً، يخلق جبرا من جديد عدداً كبيراً من شخصيات الرجال والنساء التي يجد القارئ أنها تفرض نفسها على ذهنه، فيعايشها من الداخل، ولا يستطيع نسيانها. وبقدر ما يثير وليد مسعود من تساؤلات، فإن الشخصيات الأخرى التي تحاول الإجابة والبحث بصراحة مذهلة، تجعلنا نتساءل: هؤلاء الرجال والنساء، عمن هم في الحقيقة يتحدثون؟ هل هم المرآة، ووليد مسعود هو الوجه الذي يطل من أعماقها، أم أنه هو المرآة، ووجوههم تتصاعد من أعماقها كما هم أنفسهم لا يعرفونها؟وكتب الكثير من الروايات والسير منها {البئر الأولى} و{شارع الأميرات}، {وصيادون في شارع ضيق} و{السفينة} و{يوميات سراب عفان}، وفي هذه الرواية ستثبت البطلة أنّها امرأة غير عاديّة، فتجد أنّ حبًّا كهذا لا بدّ أن يكون مغامرة خطرة في أكثر من اتّجاه، إذا كانت تبغي خلاصًا لنفسها، ولغيرها. ونائل عمران، الرجل الذي يفاجأ بهذا العشق، سيذهل حتى الألم لما حرّك في سراب من طاقة هائلة، وحيويّة أخضعت العقل والجسد لإرادتها، تحقيقًا لإنسانيّتها وحرية قرارها. وهي قد تصرّ على أن تمازج بين واقعها وخيالها، أشبه بممثّلة تقمّصت دورًا على المسرح، وخرجت إلى الطريق وهي مستمرّة في دورها، إلى أن تحوّل وهمها إلى حقيقة.أنتج جبرا نحو 70 من الروايات والكتب المؤلّفة والمترجمة. وقدّم للقارئ أبرز الكتّاب الغربيين، مثل «هاملت وماكبث والملك لير وعطيل والعاصفة والسونيتات» لويليام شكسبير، و»برج بال» لأندريه مارو، و{الأمير السعيد» لأوسكار وايلد، و{في انتظار غودو» لصامويل بيكيت، و{فاق الفن» ألكسندر إليوت. «الأديب وصناعته» لعشرة نقاد أميركيين، «الحياة في الدراما» أريك بنتلي. «الأسطورة والرمز» لعدد من النقاد، «قلعة أكسل» لادمود ويلسون و{الصخب والعنف» لويليام فوكنر، التي نال عنها جائزة نوبل الآداب، وقدم لها جبرا بطريقة تسهل القارئ فهمها، خصوصاً أنها مكتوبة بتقنية صعبة، قيل إنها موجهة إلى الروائيين فحسب. وهذه الأعمال كلها تحتاج إلى تسويق من جديد لأنها وبسبب إهمال ما أصبحت متحفية أو لا تهم سوى النخبة.باختصار، تعتبر كتب جبرا البئر الأولى للثقافة الحديثة.