في الوقت الذي تستمر فيه الحرب الأهلية في سورية والأزمة السياسية في تايلند وأوكرانيا في احتلال العناوين الإخبارية الرئيسية، ربما تكون حكومة كولومبيا، بقيادة الرئيس خوان مانويل سانتوس، وتنظيم "القوات المسلحة الثورية في كولومبيا" FARC على وشك إنهاء الصراع الأطول والأكثر وحشية في تاريخ أميركا اللاتينية. والاتفاق من شأنه أن يمكن كولومبيا- الحليفة الإقليمية المهمة للولايات المتحدة- من تحويل اهتمامها ومواردها نحو التنمية الاقتصادية والاجتماعية.

Ad

انطلقت أحدث سلسلة في المفاوضات- التي استضافتها هافانا بوساطة من كوبا والنرويج- في نوفمبر 2012. ورغم بعض الانتكاسات فإن العملية ساهمت في تعظيم الآمال في التوصل إلى حل نهائي للصراع الذي دام خمسين عاماً، الذي تسبب في تشريد ما لا يقل عن خمسة ملايين شخص، وأسفر عن وقوع أكثر من 200 ألف قتيل (ما يقدر بنحو 85% من هذا العدد من المدنيين)، فضلاً عن عمليات قتل انتقائية أوقعت أكثر من 23 ألف قتيل، واختفاء قسري لأكثر من 25 ألف شخص، واختطاف أكثر من 27 ألف شخص، ووقوع 1982 مذبحة.

بالطبع، هذه ليست أول محاولة من جانب الأطراف المتحاربة لصياغة اتفاق سلام. ففي أواخر تسعينيات القرن العشرين، التقت حكومة الرئيس أندريس باسترانا مع مقاتلي العصابات- جنباً إلى جنب مع ممثلين للأمم المتحدة وكوبا وإسبانيا وفرنسا وسويسرا والبرازيل وبلدان أخرى- في منطقة منزوعة السلاح من كولومبيا سعياً إلى التوصل إلى اتفاق.

لكن المحادثات واجهت رياحاً معاكسة شديدة. فالولايات المتحدة لم تعرب قط عن ثقتها في الجدوى من هذه العملية، بل إنها كانت حريصة على تقويضها في كل فرصة. وعلاوة على ذلك، كان الرئيس الفنزويلي هوغو شافيز الذي صعد إلى السلطة في عام 1999 ينظر إلى "القوات المسلحة الثورية في كولومبيا" باعتبارها شريكاً طبيعياً في التحالف الجديد النهائي بين قوى اليسار في منطقة الانديز. ومع اكتفاء أوروبا بتقديم الوعود الفارغة، والأمم المتحدة غير المتأكدة من كيفية تحفيز التقدم في أجندة المحادثات الطموحة التي تتألف من 12 نقطة (التي تتضمن أكثر من 100 بند)، انهارت المحادثات في عام 2002.

لكن مما يدعو إلى التفاؤل أن الكثير قد تغير على مدى العقد الماضي. فبادئ ذي بدء، تمكنت الأطراف المختلفة بفضل الاجتماع خارج كولومبيا من تجنب الضغوط ومحاولات التلاعب التي ساهمت في انهيار المحادثات في المرة السابقة.

وعلاوة على ذلك، اشتركت الولايات المتحدة- المترددة في مواجهة أزمة أخرى في السياسة الخارجية، ناهيك عن تقديم المساعدة أو نشر القوات ومواجهة بقعة أخرى ساخنة، حيث تتعرض مصالحها الوطنية الحيوية للمزيد من المخاطر- ولو على استحياء بشكل متحفظ في المفاوضات الرامية إلى التوصل إلى تسوية. وعلى نحو مماثل، لعبت فنزويلا منذ السنوات الأخيرة لحكم شافيز وأثناء ولاية الرئيس نيكولاس مادورو دوراً أكثر إيجابية في تعزيز السلام، انطلاقاً من إدراكه لحقيقة مفادها أن الجيرة المعادية التي خلقها الصراع الكولومبي تعرقل النمو في بلاده. (تجنبت الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي واتحاد دول أميركا الجنوبية المشاركة بشكل جماعي، بسبب تركيزها على أولوياتها).

وأخيراً، كانت المفاوضات هذه المرة أكثر قابلية للإدارة من حيث الحجم، حيث ركزت على خمس قضايا محددة: سياسة التنمية الزراعية، والمشاركة السياسية من قِبَل القوات المسلحة الثورية في كولومبيا، وإنهاء الصراع (تسريح القوات والعدالة الانتقالية)، وتعويض الضحايا، والحد من تجارة المخدرات غير المشروعة. ولابد لأي اتفاق أن يغطي كل هذه القضايا الخمس. حتى وقتنا هذا، اتسم الجانبان بحس واقعي، فتجنبا المواقف الإيديولوجية أو الشكلية- وهو ما يعكس في جزء منه توازن القوى الجديد. ففي التسعينيات، كانت "القوات المسلحة الثورية في كولومبيا" في صعود، وكانت تفرض قائمة من المطالب المتطرفة. أما اليوم فقد أصبحت قوات العصابات أضعف إلى حد كبير، الأمر الذي سمح لحكومة سانتوس بعرض اتفاق الحد الأدنى الكافي لإرضاء المؤسسة الكولومبية التي تدعم العملية ولكن من دون اقتناع كامل، وجماهير الناس المرهقة التي تريد السلام ولكنها تظل غير راغبة في تقبل تقديم تنازلات كثيرة لـ"لقوات المسلحة الثورية".

وقد تم بالفعل التوصل إلى اتفاقات عامة بشأن القضيتين الرئيسيتين الأوليين- التنمية الزراعية والمشاركة السياسية من قِبَل القوات المسلحة الثورية- ولو أن بعض التفاصيل الأساسية لم تتم تسويتها بعد. ولتسهيل التقدم المستمر فقد عمدت الأطراف المختلفة إلى تأخير القضايا الأكثر حساسية- إنهاء الصراع ومسألة التعويضات- في حين ركزت أولاً عن وقف إنتاج المخدرات غير المشروع، وهي القضية التي تتقارب مواقف الجانبين منها بشكل أكبر. والواقع أن اقتراح القوات المسلحة الثورية- والذي تَرَكَّز حول حماية المزارعين الريفيين الذين يتعيشون من زراعة محاصيل غير مشروعة، بما في ذلك إنشاء سوق قانوني لمثل هذه المحاصيل- كانت معتدلة نسبيا.

الواقع أن نفوذ منظمة "فارك" على تهريب المخدرات تضاءل إلى حد كبير خلال السنوات الأخيرة، حيث أفسحت التكتلات الضخمة التي هيمنت ذات يوم على صناعة المخدرات في كولومبيا المجال أمام عدد هائل من المنظمات الإجرامية الأصغر حجماً، بقيادة أمراء الحرب المرتبطين بقوى اليمين السياسية المتطرفة. وكانت النتيجة نوعاً من "سلام المافيا": حيث تعمل قوى موحدة تحظى بشرعية إقليمية، إلى جانب تجار المخدرات والجماعات شبه العسكرية القديمة، والعصابات الإجرامية الجديدة، وكبار ملاك الأراضي، والزعماء السياسيين المحليين، على تعزيز بعضها بعض.

وما لم يقع حدث ضخم- ولنقل على سبيل المثال اغتيال شخصية كبيرة، أو هجوم عسكري واسع النطاق، أو انقسام كبير داخل النخبة السياسية، أو داخل منظمة "فارك" (القوات المسلحة الثورية)- فمن المرجح أن تستمر المفاوضات. ومن المؤكد على أية حال أن انقطاع المفاوضات سيكون باهظ التكاليف بالنسبة للجانبين.

ولكن هناك عقبة محتملة واحدة لا يمكن تجنبها هي انتخابات مايو الرئاسية. فلابد من إعادة انتخاب سانتوس من أجل تهميش الرئيس السابق ألفارو أوريبي، الذي يحاول جنباً إلى جنب مع عناصر مدنية وعسكرية متمردة تقويض المفاوضات. وهذا يتطلب تقدم المحادثات بشكل مطرد، وأن تظل "فارك" (القوات المسلحة الثورية) جديرة بالثقة وموحدة. ولكن "فارك" لن تسلم سانتوس الاتفاق السريع الكفيل بتسريع مسيرته إلى الفوز الانتخابي، وهو يعلم أن راية السلام لن تضمن له إعادة انتخابه. في الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية عام 2010- التي شارك فيها 49% فقط من الناخبين- حصل سانتوس على 47% من الأصوات. ولكن اليوم، ورغم تقدم سانتوس في استطلاعات الرأي، فإن نسبة كبيرة من الناخبين مازالت مترددة، مع تسبب توقعات المشاركة المتدنية في الانتخابات في تعكير فرص إعادة انتخابه.

فضلاً عن ذلك، فإن القضايا المعلقة في المحادثات بالغة التعقيد، خصوصاً مسألة تعويض ضحايا الصراع. فهناك دوماً الخطر المتمثل في حرص الجهات الفاعلة المسلحة، سواء من جانب المسلحين أو المؤسسة العسكرية على عرقلة التقدم في هذه المسألة الحاسمة.

ورغم هذه التحديات، فهناك أسباب كثيرة تدعونا للأمل في التوصل إلى اتفاق هذه المرة. فحتى السلام المتواضع الهش يمثل تقدماً كبيراً لآفاق الديمقراطية والازدهار في كولومبيا.

* خوان غابرييل توكاتليان، مدير العلوم السياسية والدراسات الدولية في جامعة "توركياتو دي تيلا" في بيونس آيريس.

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»