تشير حدة الأزمات المالية ووتيرة تكرارها إلى أنها باتت جزءاً حتمياً من الرأسمالية، لكن هذا لا يعني أن يقلع صناع السياسة عن محاولة الحد من الضرر الذي تلحقه هذا الأزمات، إنما أن يتوخى المنظمون الحذر لدى قيامهم بمحاولات تحقيق الاستقرار في النظام المالي.

Ad

ذلك هو الاستنتاج الذي تشاطره تحليلان تمثلا في ورقة من بارسيلو بريتس من البنك المركزي البرازيلي وخطاب ألقاه في نيو دلهي واللورد أدير تيرنر، الرئيس السابق لهيئة الخدمات المالية البريطانية.

ينجم عدم الاستقرار الأساسي عن حدوث تباين بين أصول البنوك وموجوداتها (قروض الأجل الطويل) وديونها أو التزاماتها المتمثلة بالإيداعات القصيرة الأجل، وحسب تعليق السيد بريتس: "ما من أنظمة تستطيع تغيير هذه الحقيقة مطلقاً ما لم يتم، على سبيل المثال، إقرار قانون يحدد حجم المتطلبات من الاحتياطيات عند نسبة 100 في المئة مع منع أي روافع مالية".

ويحاول المنظمون الحد من هذه المشكلة عبر متطلبات تشمل رأس المال والحد من الروافع المالية، ولكن القواعد والقوانين التي يضعها المنظمون تتلاشى على الدوام تحت وطأة الابتكارات المالية. تلك الابتكارات تتسم بأنها من الصعب تقييمها: وبخلاف الأدوية الجديدة لا يمكن اختبار المنتجات المالية بصورة مسبقة، وإذا اختار المنظمون رفض نظام يعتمد على القواعد واعتماد نظام يستند إلى المبادئ العامة، فإن النتيجة سوف تكون الكثير من عدم اليقين حول ما هو مسموح وما هو غير مسموح.

وقد عمدت السلطات الأميركية في استجابتها حيال الأزمة المالية الأخيرة إلى اختيار نظام عمل بالغ التعقيد تمثل في قانون "دود – فرانك". لكن السيد بريتس يشير الى أن كل قانون جديد يخلق أعباء بالنسبة إلى المنظمين والى الصناعة أيضاً ولا يستطيع المشرفون أن يأملوا في الاحتفاظ بسجل يشمل كل خرق أو مخالفة. كما أنه في كل مرة يتم فيها التهرب من القواعد والقوانين تنخفض معها مصداقية النظام المقترح.

إلى ذلك يقتبس السيد بريتس عن الاقتصادي جي كي غالبريث قوله "إن كل الأزمات انطوت على دين أصبح، بشكل أو بآخر، يصعب قياسه على نحو خطير وفق وسائل الدفع الضرورية". ويطرح اللورد تيرنر الجدلية ذاتها، والديون مفيدة، من الوجهة النظرية، إذا أتاحت للشركات تجميع رأس المال أو سمحت للمستهلكين تسهيل سبل الاستهلاك في حياتهم، لكن من الناحية العملية فإن الديون تستخدم من أجل تمويل مشتريات أصول قائمة، ما يفضي إلى حدوث فقاعات، ويستشهد اللورد تيرنر في هذا الصدد بتقديرات تقول إن 15 في المئة فقط من حجم عمليات الإقراض في البنوك البريطانية تستخدم لأغراض الاستثمار.

قد يستخدم الأفراد الائتمان على شكل وسيلة من أجل تمويل الاستهلاك بشكل زائد على دخلهم، كما كانت الحال مع أصحاب المنازل في الولايات المتحدة في العقد الماضي. وتفضي هذه العملية إلى تعضيد ذاتي: الائتمان السهل يدفع أسعار الأصول نحو الارتفاع، وهو ما يجعل البنوك أكثر ثقة ويدفعها ذلك إلى تقديم مزيد من القروض.

تلك الدورات الواسعة من الائتمان تؤدي إلى توافر مبالغ أكبر في الأسواق المالية نظراً لدوران الأصول جيئة وذهاباً، وتفضي هذه العملية إلى دفع البنوك إلى مطالبات متبادلة هائلة في ما بينها، وهو التطور الذي أضاف إلى موجة الهلع في سنة 2008. ومن الصعب رؤية كيفية تحقيق الاقتصاد لفائدة من خلال هذا التداول الزائد؛ فهو بالتأكيد لا يضمن أن تستمر أسعار الأصول في مسار متسق مع الأساسيات الاقتصادية. وفي عالم من معدلات الصرف المعومة، في معظمها، فإن تدفقات رأس المال عبر الحدود تفضي إلى تفاقم المشكلة، ولم يعد العجز التجاري يشكل عائقاً أمام الدول- في الأجل القصير على الأقل- حيث يمكن تمويل عجز الحساب الجاري عن طريق تدفق رأس المال الذي يساعد في تضخيم فقاعة الأصول مثلما حدث، على سبيل المثال، في طفرة الإسكان في ايرلندا وإسبانيا.

يختلف المعلقان بريتس وتيرنر حول كيف تكون الاستجابة المثلى من جانب المنظمين، ويعتقد اللورد تيرنر أن القضية تتمثل بـ"النوع الخطأ من تدفقات رأس المال"، وأنه يتعين أن تتم معالجة ذلك على المستوى الوطني، مع تدخل السلطات المعنية من أجل الحد من عمليات خلق الائتمان الزائد على الحد. وقد يتمثل أحد الأساليب في الإصرار على أن تقوم البنوك الأجنبية العاملة في دولة ما بممارسة تلك الأنشطة عبر فروع رأسمالية منفصلة. وعلى الرغم من أن هذا قد يفضي إلى "بلقنة" الأسواق المالية، فإنه على الأقل سيؤدي إلى المساعدة على الحد من تدفق الأموال السريعة المهربة.

وفي المقابل يظن السيد بريتس أن على المنظمين أن يركزوا على تقليص عواقب الأزمة التالية إلى الحد الأدنى عن طريق تقوية شبكة الأمان، من خلال تأمين الودائع (في عملية يتم تمويلها عبر فرض ضرائب على كل المؤسسات ذات الصلة وليس فقط على الجهات التي تتلقى الإيداعات)، إضافة إلى التخطيط لحلول شفافة وواضحة للمؤسسات الفاشلة مع ضرورة توافر مسؤولية شخصية ذاتية تفرض على مديري البنوك التي أخفقت في عملها، ويتعين الاحتفاظ بحصة من مكافآت المديرين في كل بنك في حساب يمكن اقتحامه إذا تعرض ذلك البنك الى متاعب.

وعلى الرغم من ذلك فإنه لا سبب يحول دون اتباع المنظمين للطريقتين، وقد يكون ذلك أكثر إنتاجية من إيجاد أنظمة أكثر تعقيداً يتهرب منها الممولون.