سيتم تنصيب المشير السيسي رئيساً لمصر اليوم، إثر انتخابات رئاسية تنافسية شهدت لها جهات المتابعة المحلية والدولية بـ"النزاهة"، وهو أمر شديد الأهمية، لأنه يؤسس لمرحلة جديدة في تاريخ هذا البلد المؤثر والمحوري، بشكل ينعكس على تطورات الأوضاع الإقليمية والدولية.
لقد حاولت أن أستعرض عدداً من المعالجات الصحافية والبحثية الغربية لما يجري في مصر من تطورات تاريخية في تلك الأوقات الفارقة؛ ولاحظت شيئين أساسيين؛ أولهما أن تلك المعالجات أقل مما يجب مساحة، خصوصاً مع مقارنتها بأوقات سابقة كانت التطورات المصرية فيها تحظى بمساحات أكبر، وثانيهما أن موضوع إيقاف برنامج الإعلامي الساخر باسم يوسف احتل مساحة "كبيرة ومؤثرة" في تلك المعالجات.في السطور التالية سأنقل ما قلته لإحدى الصحافيات الأجنبيات حين كانت تحاول أن تستفسر مني عن مسألة باسم يوسف وانعكاسها على مستقبل الحريات في مصر.س: ما الذي يقدمه باسم يوسف؟ج: باسم يقدم نوعاً من الإعلام الساخر.س: وما طبيعة هذا العمل؟ج: الإعلام الساخر ليس تحليلاً أو أخباراً، ولا يفترض فيه التوازن أو الحياد أو الدقة. هو نوع من التعبير عن الرأي بشكل حاد وصارخ. يعتمد هذا النوع من الأداء الإعلامي على المبالغة الشديدة، والتكرار، وقلب المواقف، واللعب على التناقضات الصارخة. انتزاع الضحكات من الجمهور هو هدف أساسي من أهداف الإعلامي الساخر، لكن الانطواء على قيمة ومغزى ومعنى مسألة مهمة أيضاً، وإحداث التوازن بين الفكاهة وخفة الظل من جانب والعمق والقيمة من جانب آخر هو مناط المنافسة ودليل التفوق والإجادة في هذا الصدد. وأعتقد أن باسم يبلي بلاء حسناً على هذا الصعيد.س: هل ما يقدمه باسم جديد على الواقع المصري؟ج: لا ليس جديداً على الإطلاق إذا تحدثنا عن المفهوم، لكنه جديد تماماً إذا تحدثنا عن "التكنيك"، وطريقة العرض، وطبيعة الإنتاج. ما يفعله باسم قريب من صنعة "الأراجوز"، الذي ازدهر في مصر في أواخر العصر المملوكي، وقد جسد عمر الشريف دور "الأراجوز" في شريط سينمائي ساحر يحمل الاسم نفسه، حيث قدم "أراجوزاً" يُسخّر نفسه لنقد السلطة وفضح مفاسدها. لقد كنا نفعل هذا أيضاً ونحن صغار. في سبعينيات القرن الماضي، كنا نسخر من الرئيس السادات مثلاً عبر "أهازيج" أو "طقطوقات" أو "نكت" أو "أغان" في الأحياء الشعبية، لكن تلك السخرية لم تجد طريقاً أبداً إلى وسائل الإعلام.س: ألا ينطوي ما يقدمه باسم على تجاوزات غير مقبولة؟ج: ينقسم الناس حول ما يقدمه باسم. البعض يراه مقبولاً ومطلوباً وعظيماً، والبعض الآخر يراه متجاوزاً ومنفلتاً وساقطاً، بل إن هناك من يرى أن باسم نفسه "خائن" و"عميل" و"أرزقي سافل"، في مقابل من يراه "بطلاً" و"ناقدا اجتماعياً وسياسياً عبقرياً"، لكن الجميع يتفقون على شيء واحد؛ هو أهمية ما يفعله باسم، ورواجه، ونجاحه في اجتذاب الجمهور، وتصدره قائمة الإعلاميين المؤثرين لجهة الشهرة والأجر والنفوذ. لو لم يكن باسم مهماً لما امتلأت الدنيا بما فعل، ولما انشغلت به الناس، ولما كُـتب عنه مئات القصص الصحافية والمقالات في صحف رئيسية في العالم.س: لماذا ينقسم الناس حول باسم وبرنامجه، إذا كان يتمتع بهذا القدر المعترف به من النجاح والانتشار والرواج؟ج: الرواج لا يعكس قيمة في حد ذاته. وهناك سبب آخر أهم يتعلق بحالة التلقي. المصريون الآن في حالة استقطاب حادة، والأعصاب مشدودة ومتوترة، والجميع يُقّيم الأمور من جانب واحد يتعلق بمدى اتساقها مع رأيه السياسي، فالانقسام حول باسم لم يكن فنياً كما يرى البعض، لأن الجميع يبدو متفقاً على براعته، وليس أخلاقياً كما يرى البعض، لأننا "نبلع" ما هو أسوأ من هذا وأكثر تردياً، ولكنه انقسام سياسي، فالكل يريد باسم "معه" وليس "عليه". الأمر أشبه بعلاقة مجتمع متوتر ومحافظ ومشدود براقصة غجرية وموهوبة وسيئة السمعة... الجميع يطعن في "انفلاتها" و"تجاوزاتها الأخلاقية"، لكن الجميع معجب بفنها ودلالها وغنجها، ومنجذب لها، ويريد أن ينال حظه منها.س: كيف نحاسب باسم من الناحية المهنية؟ج: بوصفه إعلامياً يقدم منتجاً إعلامياً، فلا بد أن تكون هناك قواعد لمحاسبته، رغم إقرارنا أنه يقدم نوعاً خاصاً من الأداء، لا يفترض فيه توافر أي من قيم العمل الإعلامي الرشيد مثل التوازن والحياد والدقة. أولاً: هناك ضرورة لتجنب خرق القوانين النافذة في مثل هذا النوع من الأداء، وثانياً: يجب أن يفصح مثل هذا البرنامج عن طبيعته وكونه ساخراً وليس برنامج أخبار أو أحداث جارية، وثالثاً: يجب أن يحظى مثل هذا البرنامج بتأييد علني من القطاع المؤثر في الجمهور، ورابعاً: أن ينطوي على جهد إبداعي خاص ومميز.س: وما موقف باسم من هذه القواعد الأربع؟ج: ستحدد المحاكم ما إذا كان باسم اخترق قانوناً نافذاً من عدمه، وقد أفصح بوضوح عن طبيعة برنامجه، وهو بالتأكيد ينطوي على جهد إبداعي خاص ومميز، ويتبقى بعد ذلك أن يحافظ باسم على "تأييد علني" من القطاع المؤثر من الجمهور، وهو أمر يبدو أنه يفقده بعد 30 يونيو الفائت.س: وما الذي يجب أن نفعله نحن إزاء ما يقدمه باسم؟ج: أن نشاهده إذا كنا من المعجبين بما يقدم، وأن نمتنع عن مشاهدته إذا كان يزعجنا أو لا يحصل على إعجابنا.س: وما الذي يجب أن تفعله السلطة؟ج: أي شيء باستثناء قمع باسم أو إيقاف برنامجه. لأن المقارنة ستكون في غير مصلحتها تماماً، وستكون مكلفة جداً، إذا ما تم ذكر أن نظام مرسي لم يغلق برنامج "البرنامج".س: وما الذي يجب أن يفعله من يتضرر مما يقدمه باسم؟ج: أن يرفع عليه قضية، أو يطلق حملة لمقاطعة برنامجه، أو يفعل أي شيء قانوني يفهم باسم منه أنه "يفقد تأييد القطاع المؤثر من الجمهور".س: ولماذا توقف برنامج باسم؟ج: يعمل الإعلام عادة داخل مثلث له ثلاث زوايا في أي مجتمع؛ الزاوية الأولى تتعلق بمعايير الصناعة؛ وتلك يتقنها باسم وينجح فيها، والثانية تتصل بالسوق، وتلك يعرف باسم كيف يحقق فيها أعلى عائد، والثالثة تختص بالنظام العام؛ وهو خليط من القوانين، والأمن، والسياسة، والأعراف... ويبدو أن باسم اصطدم بهذه الزاوية اصطداماً حاداً.لقد نجح باسم وازدهر برنامجه بسبب خطل "الإخوان" وهزلية أداء مرسي، وبسبب تضامن معظم مؤسسات الدولة المصرية ضد هذا الفاشية الدينية، ولأن القطاع الغالب من الجمهور ساند برنامجه والتف حوله، ولأنه كان بارعاً وخفيف الظل.الآن لم يبق من كل هذا سوى براعة باسم وخفة ظله، وهو أمر لا يكفي لاستمراره كما يبدو.س: ولماذا لم يقاوم؟ج: لقد توقف البرنامج لأن رجال أمن، ورجال سياسة، ورجال أعمال، ورجال إعلام، ورجال شارع أرادوا هذا، أو على الأقل توافقوا عليه. كان جميع هؤلاء وراء قرار الإيقاف. ولم يكن هناك أبطال. القرار كان تسوية، ويبدو أن "الجميع" خرج راضياً منها.س: وما أفضل ما يمكن أن يفعله باسم؟ج: أن يركز على حصته الإعلامية، ولا يحولها لأداة سياسية، وأن ينطلق في معالجته من قاعدة "نقد السياسيين المخطئين والسياسات الخاطئة التي تستحق السخرية"، وليس من قاعدة "إخضاع السياسيين والسياسات للسخرية والإهانة، لأن هذا يحقق عوائد أكبر".س: وما أسوأ ما يمكن أن يفعله باسم؟ج: أن يعتقد أنه أكثر من "إعلامي ساخر"، يقدم محتوى لجمهور محدد، في إطار محدد، ويرجو الاستدامة والرواج. س: وما أهم المؤثرات في مستقبل باسم المهني؟ج: من أهم تلك المؤثرات مدى قدرة النظام الجديد في مصر على مواجهة التحديات وتحقيق النجاحات، ومدى قدرة باسم على إيجاد أفكار جديدة قابلة للاستدامة، عوضاً عن تكرار اللعبة الناجحة مرات ومرات.* كاتب مصري
مقالات - زوايا ورؤى
ما بين السيسي وباسم يوسف
08-06-2014