ظلت الانتخابات البلدية التي نُظِّمت قبل 12 شهراً في العراق نموذج تفسير وتنبؤ يساعد المراقبين في بغداد على وضع تقديرات أكثر من أولية لنتائج الاقتراع التشريعي المقرر نهاية الشهر الجاري.

Ad

فقد مثلت تلك الانتخابات اختباراً لأوزان القوى، بعد التطورات السياسية العميقة التي شهدها العراق بمجرد انسحاب الجيش الأميركي في آخر أيام 2011، وهو اختبار مهم مهما حاول الآخرون التشكيك في انطباق نتائج الانتخابات البلدية السابقة على ظروف اقتراع مجلس النواب الوشيك.

فالاقتراع النيابي لعام 2010 كان صورة أخرى للانتخابات البلدية "مجالس المحافظات" لعام 2009، كما أن رئيس الحكومة نوري المالكي حاول أن يتحاشى العام الماضي، خوض اقتراعين بفاصل سنة واحدة، خوفاً من انكشاف ثغراته، وبذل جهوداً لم تنجح، لدمج الاقتراعين معاً لولا إلحاح الأمم المتحدة وجميع خصومه، على التقيد بجدولها الدستوري.

وبناءً على نتائج اقتراع العام الماضي فإن المعركة الشيعية الداخلية أفرزت "نصفين" من أصوات الشيعة تقريباً، فقد حصل المالكي وحلفاؤه الثانويون على نحو 45 في المئة من الأصوات الشيعية، بينما حصل عمار الحكيم (المجلس الأعلى) ومقتدى الصدر (التيار الصدري) وحلفاؤهما، على نحو 50 في المئة، وما تبقى ذهب إلى علمانيين يعارضون المالكي.

وفي ضوء هذا فإن من المعقول للخبراء، أن يحافظ كل من المالكي وخصومه الشيعة، على نصف الأصوات لكل منهما، لكن الاختبار العسير اللاحق سيتمثل بقدرة أي نصف من هؤلاء، على إقناع باقي العراقيين بدعمه لتشكيل الحكومة المقبلة.

ويتصاعد هذا السيناريو بعدما بات غير ممكن حتى في ظل الوساطات الإيرانية، أن يتحد "نصفا الشيعة" في كتلة واحدة، إذ غلبت طموحات الزعامة على متطلبات الشراكة، وجعلت المالكي يبني سياساته بعيداً عن شركائه التقليديين، ويبالغ في تقدير فرصه حالماً بدور الغالب الأكبر.

وفي وسع انتخابات العام الماضي أيضاً، أن تمنحنا نموذج عمل لبناء الائتلاف الحكومي، فتشكيل الحكومات المحلية وخاصة في البصرة وبغداد عام 2013، كان تجربة و"بروفا" خاضها الحكيم والصدر ضد نوري المالكي، ونجحت حين انتزعا منه المحافظتين المهمتين، عبر تمتين تحالفهما الثنائي ومد جسور الشراكة مع السنة والعلمانيين والأكراد.

ومنذ تلك اللحظة، ظل المالكي يشعر بحجم التهديد الجديد، وبدلاً من أن يعالجه راح يستثمر في مضاعفة الإغراءات التي ستنجح كما يعتقد، في اختراق المعارضة السنية لتوليه حكومة ثالثة في 2014، ويبدو حلفاؤه واثقين من إمكانية اللعب مع أسامة النجيفي رئيس مجلس النواب الطامح حسب تقديرهم، إلى منصب رئيس الجمهورية، قائلين إن في وسع ذلك أن يشق التحالف المضاد المكون من الحكيم والصدر والسنة والأكراد المتمسكين بمنصب الرئيس، ويخلط الأوراق بما يتيح لطهران وواشنطن أن تلعبا بشكل مؤثر لمصلحة المالكي.

لكن المصادر العليمة تؤكد أن مأزق المالكي الراهن لا يتمثل بنقص في ممكنات الإغراء والوعود المعسولة، بل في مصداقيته التي تأثرت بشدة طوال أعوام من نقض الاتفاقات، وقدرته على التورط السريع في مواجهات من طراز "القمار الخطير" وهي عوامل جعلت منه طرفاً لا يصلح لدخول صفقة آمنة بضمانات معقولة. ويرى هؤلاء أن هذا العامل سيمنع أي طرف سني مؤثر، من القبول بالعمل مع المالكي، وهو أمر أدى فعلياً إلى تفهم طهران وجهة النظر هذه، وتوجيهها لوماً حاداً إلى المالكي، والعمل فعلياً مع شيعة آخرين للتفاهم على بديل له، يضمن الحد الأدنى من التوافقات الصعبة إقليمياً وداخلياً.

ويشير هؤلاء إلى جولات مكوكية يقوم بها أحمد الجلبي بين النجف وطهران، رافقها مؤخراً لقاء وُصِف بأنه الأطول منذ 11 عاماً، بين الجلبي وسفير أميركا في بغداد، سبق سفره الأخير إلى إيران. وهي تحركات تزيد من ارتياب رئيس الحكومة العراقية، الذي ركز في خطاباته الأخيرة على ضرورة "تغيير جذري في اللعبة" والخروج من نمط حكومة الشراكة والتوافق، إلى نموذج الأغلبية، وهو أمر لا يحظى بموافقة الأكراد والسنة، ويزيد تعقيد أخطر مناورة سينفذها المالكي في حياته السياسية.