لطالما تساءلنا وتساءل كثير من الباحثين المتخصصين في شؤون الفكر المتطرف: كيف أمكن لأفكار الخوارج القدامى المتطرفة والقائمة على الإقصاء والتكفير والعنف والترويع أن تعود من جديد بعد أكثر من 14 قرناً، لتستحوذ على عقول ونفوس بعض الشباب في المجتمعات العربية والإسلامية والغربية، وتدفعهم إلى الكراهية والإقصاء وممارسة العنف وترويع الآمنين تحت شعارات ومفاهيم دينية، مثل "الجهاد" و"الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" و"تطبيق الشريعة" و"تكوين دولة الخلافة"؟! فكان الجواب دائماً أن ذلك بسبب "ضعف التحصين الديني والثقافي" للشباب، الأمر الذي جعل مناعتهم ضعيفة أمام غزو الفكر المتطرف الذي يتصدر الساحة العربية والإسلامية، خاصة في أعقاب ما سمي بثورات الربيع العربي، لكن دعونا نتساءل: كيف يتم زرع فكر التطرف في تلك النفوس والعقول الغضة رغم كل مظاهر التعليم والتحديث والاحتكاك بالحضارة المعاصرة؟!.
والجواب أن التطرف يبدأ بزرع "فكر الكراهية" في نفوس وعقول لديها "قابلية" مسبقة للتشدد، نتيجة ضعف الحصانة الدينية الصحيحة والتربية السليمة منذ الصغر، أي منذ المرحلة الأولى للتنشئة، وأيضاً لافتقاد المناعة الفكرية العاصمة من الانحراف، نتيجة للتعليم التلقيني الأحادي الذي لا ينمي عقلية ناقدة ومفكرة، حتى إذا تمكن فكر الكراهية من نفسية هذا الشاب، تحول إلى "قنبلة مفجرة" أو "حزام ناسف" تحت ظل "عقيدة" تزين له أن "تفجير الذات" قمة الشهادة والفداء والبطولة! وبطبيعة الحال: ليس كل متطرف إرهابياً، ولكن كل إرهابي متطرف، فهناك متطرفون، يكرهون ويكفرون ويحكمون على مجتمعاتنا بالجاهلية، ويتهمون أنظمتنا بأنها تطبق حكم الطواغيت، أي القوانين المستوردة من الغرب، ولا تتحاكم إلى شرع الله تعالى، ونموذجهم الأعلى في الحكم هو "نموذج طالبان" التي طبقت الشريعة الإسلامية بحسب مفهومهم الضيق والمتشدد القائم على تحريم كل مظاهر الحياة المعاصرة، وعدم السماح بخروج المرأة وتعليمها وعملها، التطرف إذن، هو بوابة العبور إلى الإرهاب عبر أضلاغ ثلاثة تشكل "مثلث التطرف" وهي:الأول: عقل مشحون بالعداء والكراهية ضد الآخر، وضد كل مظاهر الحياة الحديثة.الثاني: نفسية قلقة ومتوترة، عانت عذابات الطفولة البائسة، وقاست خبرات تنشئة مؤلمة في بيت افتقد دفء الحنان والعطف، أو بيت مفكك بسبب أب معدد لا يعدل، ولا يحسن التربية ولم يحبب أولاده في الحياة وحب الناس والتسامح، لقد تأملت طويلاً في حياة هؤلاء المفجرين، فوجدت أن أكثرهم خريجو بيوت مفككة، كما تأملت كثيراً حياة الشعوب المختلفة، ووجدت أن الشعوب المقبلة على الحياة والحب والعمل والإنتاج، لا تنتج – أبداً - مفجرين!الثالث: بيئة أو مناخ حاضن لفكر الغلو والتطرف، يمجد "تفجير الذات" باعتباره "أسمى الجهاد"، ويبث بقوة عبر منابر متعصبة ومنتديات إلكترونية متشددة وفتاوى محرضة، تبرر العنف الإرهابي، بأنه "رد فعل" لمظالم الأنظمة العربية واضطهادها للإسلاميين وتعذيبهم في السجون، بل وتسوغه بحجة أن هدف هذه الجماعات المتبنية لفكر القاعدة، هو تحرير الأرض المسلمة من الاحتلال الأجنبي، وتطبيق شرع الله تعالى! "الخوارج القدامى" هم السلف الصالح لـ"خوارج عصرنا"، لكن القدامى كانوا أكثر رحمة بالناس من خوارج عصرنا الذين بلغت وحشيتهم وضراوتهم، أنهم يقطعون رؤوس ضحاياهم ويلعبون بها كالكرة في بث حي على وسائل الإعلام المختلفة، "خوارج عصرنا" أسعد حالاً من القدامى، إذ يجدون دعماً وتمويلاً واحتضاناً ومنابر وفضائيات ومنتديات تبث طروحاتهم وتمجد أفعالهم، وبطبيعة الحال فإن التطرف المؤدي إلى ممارسة العنف تحت غطاء الدين، كان موجوداً باستمرار في تاريخنا، فهو موروث ثقافي سلبي ورثناه ضمن المواريث المنتقلة إلينا في عصرنا الحاضر، عبر التاريخ والتراث والثقافة، لكنه كان "هامشياً" لا تأثير له في المجرى الثقافي والاجتماعي والسياسي العام، كما نجده اليوم وقد تصدر وأصبح له منظرون وأنصار وأتباع وخطباء يحرضون ويكفرون ويهاجمون كل مظاهر الحياة المعاصرة، كما يرفضون كل النظم القائمة باعتبارها كافرة! لطالما عانت المجتمعات العربية والإسلامية سطوة الفكر المتطرف وضراوة أتباعه وترويعهم للآمنين عبر ممارسة العنف الإرهابي الجماعي، لكن الجديد والطارئ اليوم ازدهار التطرف وانتعاشه من جديد في الساحتين: الأوروبية والهندية! ترى من كان يصدق أن الهند، أرض التسامح واللاعنف والسلام الروحي، بلاد "المهاتما غاندي" يحصد فيها حزب يميني متطرف، رئيسه معروف بأنه هندوسي متعصب وعنيف خاصة ضد المسلمين، هو حزب "بهارتيا جاناتا"، وهو الحزب الذي ينتمي إليه المتطرف الذي قتل المهاتما، على غالبية الأصوات الانتخابية (282 مقعداً من أصل 543) لينفرد بتشكيل الحكومة الهندية المقبلة؟! من كان يصدق أن فرنسا –بلد الأنوار والحريات– يحقق فيها حزب "الجبهة الوطنية" اليميني المتطرف، نصراً تاريخياً في انتخابات الاتحاد الأوروبي؟! من كان يصدق أن أحزاب اليمين المتطرف –عامة– تحقق فوزاً ملحوظاً في انتخابات الاتحاد الأوروبي، لتحصل على 130 مقعداً من أصل 751 ؟!* كاتب قطري
مقالات
انتعاش التطرف
02-06-2014