ليلى العثمان مسكونة بتراثها الجميل وبتفاصيله الأكثر جمالاً. قادرة، وربما وحدها قادرة، على الخوض فيه وإحيائه كعالم من عوالمها الروائية التي أوكلت أغلب أعمالها لسبره بدراية كاملة كأنها تعيشه اليوم. ترسمه حتى نكاد نرى فيه أجزاءنا المتشظية، ونلمس خفق الهواء في ردهاته. هي قادرة كروائية محترفة أن تضعنا هناك بكل يسر ليس، لأننا نعرف مواطن الأحداث، وإنما كي لا ننسى هذه المواطن. لا تفتقد الجرأة على خوض محرماته، ولا يحد من جرأتها هذا التابو الذي يقف أغلبنا، ربما، أمام حاجزه القاتل بين البوح والكتمان. هي جرأة نفتقدها ونحن نحاول صناعة البطل الأسطوري على ورق أكثر هشاشة من واقعه، وهي بالتأكيد جرأة مكلفة. كلفت ليلى في السابق كثيراً، ودفعت ثمنها لتعود أقوى وأشد صلابة مما مضى.

Ad

ليلى العثمان الاسم الذي خلق معادلة صعبة في السرد المتوحش تسير طريقها وحيدة لا يقتفي أثرها أحد، وربما لن يجرؤ أحد على ذلك. تكتب دون أن يتربص بجملتها ما يقوضها، وهي التي تحب الكتابة بالقلم الرصاص تنسى دائماً ممحاة صغيرة لا تحتاج إليها. هكذا فعلت في السابق، وهكذا تستمر في "حكاية صفية". وبعد كل عبارة أضع تحتها خطاً أصرخ بها: إلى أين يقودك حقل الألغام هذا؟ ولا تكترث بصوتي.

في "حكاية صفية" عالم سفلي لا نعلم عنه الكثير، ليس صراع الجسد ورغبته، ولا صراع الشهوة المحرمة كما يبدو في المستوى الأول للقراءة، وإنما صراع سلطتين متباينتين زمنياً في رجلين من جيلين مختلفين. صفية بالتأكيد لن تجد من يتفهم سلوكها نحو عدائية المجتمع الذي تعيش فيه، ولن يشفق عليها أحد في القراءة المجردة، كما لم يشفق عليها أحد من شخوص الرواية، عدا شقيقها الذي يمثل المستقبل لفتاة لم يعد لها مستقبل، حتى الذين استغلوا رغبتها واقتسموها بينهم، وهي لا ترمز إلى صفية الجسد المنفلت من واقعه، ولكنها تمثل ما هو أبعد من ذلك.

ارتبطت علاقة صفية في النص بأربعة شخوص مهمة ومؤثرة. الأب والأم والأخ وشخصية الراوي الذي رسمها بتجرد تام بعيداً عن الدخول إلى نفسها المضطربة. لم يمنحها أكثر من النقل الفعلي لما ترتكبه وما آلت إليه لم يفرض على المتلقي رأياً يتبناه نيابة عنه، ولم يبرر سلوكها، ولم يملك عداء لها، اكتفى بأمانة النقل تاركاً لنا المساحة الحرة في تبني ما نشاء تجاهها. بينما اختلف موقف الأب الذي ناصبها العداء منذ بداية ولادتها كأنثى، ورفض حتى أن يقترح لها اسماً، لأنها لم تكن ذكراً كما يريد. واستمر العداء بينهما في محاولاته المستمرة في القضاء عليها. وأخذت الأم مواقف غير محددة، فتارة تحن لها كابنة وأخرى تثور عليها كمتمردة. بينما ثبت الأخ على حبها رغم كل أفعالها، ليكون منقذها الأخير الذي اتفق معها على كراهية الأب الذي أودعها السجن طوال حياته.

في غمرة تفاصيل العمل وانتمائه بجدارة إلى البيئة الكويتية القديمة وحياتها البسيطة والمعقدة في آن واحد، يبقى السؤال الذي تركه الراوي معلقاً: من هي صفية؟